سوريا اليباب/ مالك ونوس
في السنوات التي سبقت هذه الحرب، كان الإعلام السوري يظهر البلاد وكأنها في عصر البحبوحة والرفاه، ناقلاً صور الضحكات والسهرات وصور أشخاص متوردي الوجوه حسني الطلعة والملبس. وكان ذلك يتكرر يومياً حتى بات أحدنا يصدق أنه يعيش في مجتمع السعادة القصوى. وقد اتكأ الإعلام في ذلك على أعمال درامية، صورت مختلف أشكال البذخ الذي تعيشه طبقة من السوريين، كأنه يريد أن يعطي الانطباع بأن أبناء الشعب قاطبة ينعمون في رغد العيش الذي يجعل كل خيرات العالم وابتكاراته التكنولوجية ووجهاته السياحية في متناول أيديهم. فصار المواطن السوري يفتح عينيه على مسلسلات تلفزيونية تدخله منذ الصباح إلى ردهات قصور لا تقل مساحةً عن ملعب كرة سلة، عابراً قبل الدخول إليها حدائق تزخر بكل أنواع الأشجار والورود، ممتعاً ناظريه بانعكاس أشعة الشمس على صفحة حوض السباحة. ولا تنسى تلك المسلسلات أن تأخذه في جولة بسيارات جديدة وغريبة، يركبها أبناء الحظوة قبل صانعيها، إلى المكاتب الفارهة في الشركات أو المصانع الكبيرة قبل المرور على أفخم مطاعم العاصمة ونواديها الليلية التي تزيد غربتهُ غربةً.
تلك كانت صورة سوريا في إعلامها قبل الحرب، إلا أن فرقاً صغيراً يكمن خلف كل تلك الأبهة. إنها صورة القاع، الصورة الحقيقية، صورة الناس الحقيقيين الذين يعيشون خلف تلك القصور، مستعبدين في تلك الشركات والمصانع، متحملين قسوة اجتراح البسمة عند التجوال لخدمة طاولات تلك المطاعم. صورة سكان أقبية الصفيح وطرقها المغبرة أو الأحياء المهملة والقرى. أو صورة النازحين عن الأراضي التي ضربها الجدب في أقسى شمال البلاد أو المنتشرين في كل بقاع العالم لكسب الرزق المجبول بذلّ الانتماء. صورة الوجوم الذي تراه على كل الوجوه. صورة التعب وقسوة الفقر والطحن اليومي. تلك هي الصورة الغائبة، الصورة التي لم يرها سياسيو البلاد ومسؤولوها، فسقطت آلام هؤلاء الناس من خطط الوزارات والمؤسسات التي تركتهم لمصيرهم يصارعون ما تعجز هي عن مواجهته. هي التي ركبت عصر اقتصاد الخدمات وبناء الفنادق والمطاعم وإغراق البلاد بكل أنواع السيارات وأحدث أجهزة الخلوي والاتصالات وكل ما يزيد من غربة المواطن عن هذا المشهد، حتى بات يحسب أنه يعيش في بلاد أخرى خارج واقعه. يعيش في بقعة مظلمة لا تصل عيون المسؤولين والسياسيين إليها. بقعةٌ خرج منها الناس إلى الشوارع والساحات ليعبّوا الهواء الممنوع ما استطاعوا. عندها فقط جحظت عيون المسؤولين المتسائلة: «من أين جاؤوا»؟
كانت تلك مرحلة، ومن المرحلة تولد مراحل، تولِّدُها تلك العيون التي ترفض الاعتراف بالوجهة التي جاء منها هؤلاء الناس فنستفيق على ما أصبحت عليه البلاد سنة 2013: أرضاً يباباً بحق، نزح عنها سكانها وتوقفت بيوتها عن معانقة السماء. هو اليباب الذي انتقل من الأرواح إلى الأمكنة.
طرفان يهجسان بالكلمات عينها، فمن يسارع بإتحافنا بالتطهير يكون أول من نقل لنا أنباء الانتصار على الخراب والرقص على الدماء. وكلما زادت إنجازاتهم على الأرض، اتسعت مساحة الخراب، وما أكثر إنجازات ذلك العام. كأن إعصاراً أخذ بطريقه كل شيء، فمس البلاد كلها ليطغى السواد والاحتراق على المشهد. هنا كانت مدينة ولكل مدينة قصة، إن لم تكن مهجورة فهي مدمرة، وقد تكون مدمرةً ومهجورةً في آن، أو قد يسعفها الحظ فيحفظ بعض بيوتها.
لكن زمناً طويلاً سيمر قبل أن يقرر أحدٌ، أو يَقدرَ أحدٌ، على إخراج الحياة من كل ذلك اليباس.
السفير