أحمد عمرصفحات الناس

سوريا بالأشعة السينية/ أحمد عمر

 

 

كنت طفلاً في الفترة التي كان في كل دار سورية؛ فرن تنور، ومحطة كهرباء صغيرة، قنديل لا ينقطع، ومحطة مياه بئر عذبة، وربها رئيس دولة بلا حرس وحاشية.. ومن يجرؤ أن يقول له ” ظلك أعوج”.. الظل دائما أعوج إلا في محرق لحظة الظهر المركزية حيث ينعدم الظل.

وكنت لأسباب ليس هذا موضعها مجبراً على مصاحبة كبار السن، وقفوا يوما على باب الفرن المزدحم، كيوم حشر مبكر سبق موعده،” إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة” . الأسد أعلن الحشر وأقام قيامة الحركة التصحيحية المباركة، بعد ” تأميم” الأسد للقمح، وانتهاء عصر: كل دار دولة، وقالوا بفطرة الكبار الذين لم تلوثهم أطعمة طحين الحليب المستورد، ولا فيروسات برامج التلفزيون البصرية، وهي فطرة تشبه في نقائها غريزة الحيوانات والحشرات، التي تدرك مواعيد الزلازل، ومواعيد العواصف المقبلة فتحتاط لها، وتلوذ منه: هذا الرجل شؤم. البلاد راحت في زميرة. راحت علينا أربعين سنة! تأميم بالعربية المعاصرة ؛ تعني تخصيص يا سادة يا كرام، تعني تبديد، أو تخسيس، من الخسة، في بلادنا الجميلة المعطاء.

ولا أعرف سبب تحديد الفترة بأربعين سنة، لعلها من فترة التيه في القرآن الكريم التي حكم الله بها على بني إسرائيل، كما فعل يعقوب بأخيه البكر عيسو في التوارة فسرق منه البكورية، أي ولاية العهد والعرش. جيل كامل كامل أضاع عمره أمام أبواب الأفران، حرقا بالنار والانتظار، حتى جاء عصر الخبز السياحي الثمين، فصارت الرعية السورية لاجئة، لا سائحة في بلادها، ولو كان النابغة الذبياني في عصر الأسد، طحان سورية بشراً ثم حجراً، لقضى عمره على باب الفرن وأنشد:

” كليني لهم يا أميمة ناصب….ورغيف أقاسيه بطئ الكواكب”

ولي ذكريات عن القمح والشعير والعدس، والقطا والحبارى، والحصادات الزراعية بأنواعها، والنوارج الدوارس، انقطعت تلك الآلات عن البلاد بعد الحركة التحصحيحة، وبات استيرادها مستحيلاً، إلى أن رأيت بهاتين العينين، اللتين لو كانتا لأوديب سوري لفقأهما حزناً وهو يرى أهرامات وجبالاً من الحنطة الذهب، تهان وتهدر في نهر جاف بين عامودا والقامشلي لأنها بارت وعطنت في دولة التقدمية والاشتراكية. أستطرد لكم هامساً: ولي سيناريو فيلم عن مزارع منكوب حصادته معطلة لحاجتها إلى دولاب مفقود. فالمؤسسة العامة للسينما، خُصصت أيضا تحت اسم “عامة” لانتاج أفلام بعينها في سوريا الأسد . كلام ليس هذا وقته. فمضايا تمضي إلى الموت مثل بقية المدن السورية جوعا ، وصبرا ، مثل عبد الله بن الزبير الذي صلب صبرا وعششت الطيور بين أضلاعه فجاءت أمه أسماء وقالت قولتها الشهيرة :” أما لهذا الفارس أن يترجل “..

يقول الحديث الشريف: ” ما آمن من بات شبعان وجاره إلى جانبه جائع وهو يعلم”. فكيف إذا كان الجار رباً للدار، ويقتل شعبه جوعاً.

هتف الشعب السوري في الشهر الأول من ثنيات وداع درعا: يا بثينة يا شعبان الشعب السوري مو جوعان، وهو الآن جوعان وغضبان وحردان ونزحان وطفران.

بثينة مستشارة، لكنها بطلة في المشهد كأنها السيدة الأولى، نجاح العطار غائبة، كانت غائبة دوماً، حضور شعبان يفسر غياب شهر رمضان، وغياب العطار وبقية الأشهر المحرمة والرجال الشهداء والمذبوحين.

كان سيد الحاجز القريب من مقر عملي نقيب الرتبة العسكرية، من التوتسي طائفيا، وكان يسوءني أن يكون ضابط بهذه الرتبة، فخوراً بسرعة حصوله على ربطات الخبز، يخترق الصفوف ويحجز ما شاء له وأقاربه ويتجول بالخبز في الشوارع، وكأنها أوسمة!

قبل مغادرتي سوريا، عشت مثل الياباني على الرز بأنواعه طويلاً وقصيراً ومسوسا، وعلى السباكيتي مثل الطليان.. في بلدة غير محاصرة سوى من التقنين.

تابعت الأخبار على فضائيات كسرى انو شروان، وهي تجتهد في البرهان على أنّ مضايا ترفل بالنعم فهي ريف والريف يعني الخير في مواضيع الإنشاء! عدنا إلى فبركات هوليود، وأن الريف يكاد يغني مع سعاد حسني الدنيا بقى لونها بمبي. وفي تحليلات فضائيات كسرى، تبرز صوراً وتردها إلى أصلها المزور ، فهذه صورة قديمة من حي اليرموك، وهذه من أمريكا لمصاب بالسرطان.. الممانعة أخلاق عالية وفاضلة !

الأسد الابن قال قبل سنوات : أنّ من حق المخابرات أن تعرف كل شيء! نعم كل شيء! وهاهو الشعب بالأشعة السينية، أضلاع فقط، عظام، لا يريد سوى رغيف الخبز. بالحركة التصحيحية استملك الأسد مفتاحين واحدا لبطن السوري وآخر لرأسه .

صمنا البارحة مستجيبين لدعوة فيصل القاسم وليس لدعوة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين مثلا، وفطرنا بعدها على ألذ المأكولات …

في الحديث الشريف، قال أشرف الخلق لأم المؤمنين عائشة : ” داومي قرع باب الجنة”، قالت: بماذا؟ قال عليه الصلاة والسلام ” بالجوع “.

الجوع الاختياري، الصوم، طبعاً، فالإجباري، التصويم، يقرع باب الجحيم.

الأسد يريد أن يتصف بصفتي الرزاق وشديد العقاب من أسماء الله الحسنى.

إيزو هذه المرة.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى