صفحات سوريةعمر قدور

سوريا.. بعد الإبراهيمي/ عمر قدور

 

لا يشعر السوريون بالخسارة بسبب استقالة الأخضر الإبراهيمي، والحق أن تعيين الرجل خلفاً لكوفي عنان لم يلقَ تأييداً واسعاً في حينه، فأُخذ على المبعوث الجديد منذ قبوله للمنصب عدم اشتراطه جدية المجتمع الدولي ودعم مهمته؛ الأمر الذي لم يكن متوفراً أيضاً لمهمة عنان. رصيد الرجل من الوساطات الدولية السابقة لم يكن ليشفع له، فهو كان وسيطاً في صراعات أهلية، أو مبعوثاً أممياً في دول تخرج للتو من تجربة الاحتلال، وهي تجارب تختلف إلى حد كبير عن الوضع السوري الذي يشهد ثورة شعبية ضد حكم مستبد. فضلاً عن أن توليه للمهمة بعد الاستقالة الاحتجاجية لكوفي عنان فُهم على أنه قبول بسقف متدنٍّ من الفاعلية، تجلى فيما بعد بالتخلي عن النقاط الستّ في خطة عنان، وعقد مؤتمر جنيف2 من نقطة الصفر، بإشراف مباشر منه.

مع ذلك، الجانب الشخصي غير مهم سوى من ناحية ما لم يفعله الرجل طوال مدة مهمته، فهو لم يقترح أي مخرج للأزمة، ولم يواجه الأطراف المسؤولة عن العرقلة، ولم يستقل إلا عندما تبين إخفاقه التام، وإخفاق من يمثلهم. فيما خلا هذا، كان مفهوماً على نطاق واسع أن مهمة الإبراهيمي لن تكون سوى مضيعة للوقت، ما ينبغي ألا يفوت على دبلوماسي محنك مثله، فالقوى الدولية العظمى غير جاهزة للتوافق فيما بينها، والنظام السوري الذي أعلن الحرب على السوريين أطلق النار منذ البداية على كافة المساعي العربية والدولية. إذاً لقد كانت مهمة لتمرير الوقت، ووصف الإبراهيمي لنفسه بأنه خادم السوريين لم يتجسد في أيّ من مفاصلها ومنعرجاتها. على العكس، شهدت مدة مهمته أعتى أنواع القتل والتدمير والتهجير من دون تحرك دولي، باستثناء ملف الكيماوي الذي عولج بابتذال شديد، وباستهانة وضيعة بدماء الضحايا.

ما يُقال عن مهمة الإبراهيمي يصح أيضاً على مهمة المبعوث المقبل، فتعيين مبعوث دولي جديد، توافقي بالضرورة، لن يكون سوى تزجية للفراغ بالفراغ، وتبرئة لساحة القوى الدولية أمام العالم لا أمام السوريين، الذين لم تعد تنطلي عليهم المشاورات والمؤتمرات، التي لا هدف لها سوى إدارة الخلافات بين تلك القوى نفسها. أما على الصعيد الشخصي، فكلما كانت شخصية المبعوث المقبل أقرب إلى الضعف فهي أكثر تلبية لمتطلبات النظام ومتطلبات الفرقاء الدوليين، لأن شخصية ضعيفة لن تفكر في الاستقالة احتجاجاً على هامشية دورها، ولن تفكر على الأرجح سوى بالمصالح والتقاطعات الدولية التي أتت بها إلى المنصب. وإذا كان الإبراهيمي قد تراجع عملياً عن الإنجاز الضئيل الوحيد لسلفه عنان فليس مستبعداً أن يتراجع خلفه حتى عن المساواة بين القاتل والضحية، التي تكرست في وساطة الأول خلال جلسات جنيف2.

لقد فهم الإبراهيمي، كما يبدو من توقيت استقالته، أن الانتخابات التي يجريها النظام هي طلقة «الرحمة» على الحل السياسي الذي يمثله، بخاصة لأن الدول الكبرى لم تُظهر ردّ فعل عليها يليق بما تعنيه من انتهاك صارخ لمقتضيات مؤتمر جنيف. التنديد بالانتخابات، أو عدها مهزلة ديمقراطية وما إلى ذلك من الأوصاف، لا يُعدّ رداً فعلياً عليها، لأن القوى التي تطلق هذه النعوت لم تبادر إلى مجرد التهديد بسحب تمثيل النظام في المحافل الدولية على قاعدة فقدانه الشرعية، بل إن الجامعة العربية التي كانت سباقة في تجميد عضوية النظام وإعطاء مقعد سوريا للمعارضة تلكأت في تنفيذ القرار، وأرجأته على الأرجح إلى تاريخ غير معلوم.

نتحدث عن نحو عشرين شهراً مضت بين استلام الإبراهيمي لمهمته واستقالته. والجميع يعلم أن تلك المدة شهدت تصاعداً في معدلات القتل والدمار، والجميع أيضاً يعلم أنه لم يكن هناك سباق أو تنافس بين آلة النظام العسكرية والجهود الدبلوماسية الدولية، لأن الأسبقية تُركت تماماً لآلة القتل كي تنجز عملها، وكي تتفنن في الاستهتار بالمجتمع الدولي ككل. إن آخر مهمة تولتها البعثة الدولية تثير اليأس والقرف من الدور المنحاز كلياً، فبدل أن تضغط المنظمة الدولية لإدخال المساعدات إلى حمص القديمة بموجب القرار الدولي 2139 تولت الإشراف على صفقة رحيل المقاتلين مقابل الغذاء، ما قد يؤسس لسابقة يبني عليها النظام وحلفاؤه لتهجير أبناء مناطق سورية أخرى. استقالة الإبراهيمي ليست حدثاً مفاجئاً أو كبيراً في حد ذاته، لكنها في ظل انعدام الثقة التام بالمنظمة الدولية قد تعني مزيداً من التراجع في أداء الأخيرة، آخذين في الحسبان التراجع في مستوى التفاهم الأميركي الروسي، على رغم أنه لم يأت للسوريين سوى بالويلات.

تزامناً مع ما سبق يتبين كل يوم تهافت ادعاءات «أصدقاء الشعب السوري» حول المساعدات المقدمة للمعارضة «المعتدلة»؛ ضجيج إعلامي كبير وفاعلية ضئيلة جداً على الأرض، المعونات العسكرية المحدودة أصلاً غير نوعية، ولا جدوى منها في الدفاع عن المدنيين السوريين. بل كلما ثارت ضجة إعلامية حول المساعدات المقدمة للمعارضة، تكشف حصول النظام على دعم عسكري أكبر من حلفائه. وكأن لا هدف للضجيج الإعلامي إلا التغطية على الدعم الذي يتلقاه النظام. هذا مؤشر على أن استقالة الإبراهيمي ليست نهاية حقبة من التفاهم الدولي، وبدء أخرى تكون المواجهة في سوريا حلقة رئيسية فيها، فزيارة وفد المعارضة إلى واشنطن لم تثمر عن تغيير في القناعات السائدة لدى الإدارة الأميركية بصفتها تقود «أصدقاء سوريا» وتفرمل اندفاعهم. هذه الزيارة شهدت في مستهلها أغرب تصريح يمكن توقعه، فنائبة المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية ماري هارف صرحت بأن هناك عدة طرق لدى الإدارة الأميركية تمكنها من جلب الأسد بنفسه إلى مائدة المفاوضات. طبعاً من دون أن توضح ما الذي يمنع إدارتها من استخدام إمكانياتها، ما دامت منذ ثلاث سنوات تصر على ألا حل في سوريا سوى الحل السياسي!

قد تشير المعطيات السابقة إلى أرجحية النظام في الفترة المقبلة، وهذا أمر لا ينبغي إنكاره لأنه تقدم فعلاً على العديد من الجبهات، لكن إنجازات النظام العسكرية بالقياس إلى الدعم المؤمن له تجعل انتصاره محل شك كبير. حتى على افتراض حصوله على دعم أكبر بكثير سيبقى موضوع الحسم بعيداً عن متناوله، المسألة لا تتعلق بالشعارات من هنا أو هناك، فالساحة السورية أصبحت بمثابة البرميل المثقوب من جميع أطرافه، وكلما ظن النظام أنه سدّ ثقباً منها انفتح له آخر، وكلما يئس أنصار الثورة بسبب هزيمة تعرض النظام لانتكاسة تعوضها. أي أن الوضع في سوريا بعد استقالة المبعوث الدولي لن يختلف عما قبلها، الذي ربما يشوبه بعض التغيير هو توقف التعويل على حل سياسي دولي، ومن ثم الاستمرار في الحرب بوصفها حرب استنزاف طويلة الأمد. ذلك يتضمن توقف السوريين عن انتظار الحسم السريع أو الحلول، ويتضمن أيضاً تهيؤ دول الجوار لاستقبال المزيد من اللاجئين.

ثمة قناعة مبسطة لدى الكثير من السوريين، مفادها أن النظام لا يزال يتصرف وفق التفويض الدولي الممنوح له علناً أو ضمناً؛ هذه القناعة، بصرف النظر عن صحتها أو خطئها، قد يدفع العالم ثمنها لاحقاً. في المقابل، تخوف الغرب من الإرهاب القادم من سوريا محق تماماً، وينبغي أن يتزايد كلما طالت محنة السوريين. لا شك أن القوى العظمى أكثر معرفة بالنتائج المحتملة لسماحها بما تسميه «مأساة القرن».

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى