سوريا ..بين كاليغولا وماكيافيلي
بدور عبد الكريم
كاليغولا .. نيرون .. ماكيافيللي .. شخصيات علقت بصمتها على مدى قرون في أساليب الحكم عبر التاريخ, سواء على اختلال في الميزان الإنساني والأخلاقي, أم دهاء في الميزان السياسي .
وإذ انضوى كاليغولا ونيرون كشخصيتين تمثلان اللعنة الأخلاقية في كتب الأدب كما في علم النفس , فقد برز ماكيافيللي على مسرح الحدث السياسي التاريخي ممثّلاً لتيار ما زال ساري المفعول على تحديث وتجديد واجتهاد… فمنذ أن قرر في كتابه ( الأمير) أن ما هو مفيد هو بالتأكيد ضروري ونافع , لم يكن يعني سكان فلورنسا بطبيعة الحال , إنما كان يؤسِّس لما هو مفيد للأمير كحاكم , وما هو ضروري من وسائل لبقاء حكمه… وعندما رسَّخ جملة من المفاهيم أسَّست للفكر البراغماتي , كان قد نشر على مدى قرون تالية مقولة (الغاية تبرر الوسيلة) بعيداً عن ترتيبها على سلَّم الأخلاق.
ولعلَّ من السذاجة السياسية الاعتقاد أن حاكماً على مدى تلك القرون , لم يطَّلع بدءاً من الاسترشاد وانتهاء بالرفض, مروراً بالفضول السياسي, على ما قدَّمه ماكيافيللي من نصائح لأميره تكفي لأن يجعل منها وسادة مريحة له على كرسي حكمه … أما أن يحضر كاليغولا بكامل اختلاله الإمبراطوري من القرن الأول للميلاد إلى القرن الحادي والعشرين, مختالاً على هيئة رئيس في مجلس يحمل تسمية مجلس الشعب لا مجلس الشيوخ , فمسألة تتعدَّى حدَّ الدهشة أو الاستنكار إلى حدِّ سؤال يتخطَّى علم النفس إلى علوم أخرى .
كانت روما تمدِّد ذراعيها على قارات ثلاث عندما تراءى لكاليغولا – على اختلال أنَّ له –”قوة إله” , وأنه يملك من القدرة ما يجعله ملكا على العالم.. لكن القول إن بشار الأسد – وقد دار رأسه بهتاف -” أنت يا سيادة الرئيس قليل عليك حكم سورية وأنت يجب أن تحكم العالم” كان جاهلا بواقع الأمور, فمسألة فيها نظر, إذ أنه أفصح في ذاك الخطاب , عمَّن يمسك به على كرسي حكمه , وإن أغفل أنه مربوط بحبال قريبة للفساد وبعيدة للمصالح الدولية , فهل تصلح المجازفة بافتراض حدِّ الاختلال النفسي لديه !! أم أن الأمر يحتاج إلى تدقيق أكبر؟؟ وأن الرئيس الامبراطوري – الذي كان يدرك تماماً تخلخل ثبات كرسي حكمه- كان يقصد أن يلصق ابتسامته على الهتاف تحت قبة مجلس الشعب , طابع بريد على رسالة معدَّةٍ لحشرها في صندوق بريد الشعب الذي كان يهتف إذ ذاك مطالباً بسوى ذلك.
كاليغولا لم يكن غائباً عن كرسي الحكم يوماً في سورية منذ أكثر من أربعين عاماً, لكن بعد عصرنة طالت الزي الخارجي , من تسريحة الشعر إلى الحذاء, كما طالت التركيبة الاجتماعية من الداخل فأحدثت فيها انكسارات في العمق .
ومع أنَّه من الواضح أن الرئيس الأب, قد أخذ بنصائح ماكيافيللي بدءاً من نسختها الأولى إلى آخر تحديث لمفاتيحها , إلا أن أحدا لا يعرف ما إذا كان قد اطلع على حكمة كاليغولا (أخيراً أدركت فائدة السلطة ، إنها تعطي للمستحيل حظوظا) مع أنَّه طبَّقها على دهاء استخدم حدوده القصوى , ليفتتح كأول رئيس جمهورية عربي, أوتوستراداً للملكية في قصر الشعب , وليضمن من خلالها سلالة ” إلى الأبد”.
وبينما كان كاليغولا روما يقول بوضوح : (هيا يا سادة , أظهروا بعض القدرة على روح التطوع , إن الهبوط على السلم المجتمعي أسهل من الصعود عليه) كان كاليغولا سورية يعمل على حفر أنفاق في الخريطة السورية , بدءاً بسرّية سوس الخشب , وانتهاءً بعلنية نقّار الخشب , متوغلا في مختلف مفاصل وروابط المجتمع التي راحت تتآكل بنيويا , من الاقتصاد الذي صمَّم للنهب , وحتى الأخلاق التي آلت للبيع سلعة في السوق السوداء, مخلِّفة شتات بشر يتحركون في شتات علاقات , ناظمها مدى القرب من أجهزة الأمن والعسكر أو من يمتُّ إليهما بصلة قرابة أو منفعة , يتراكم فيها دفع الأثمان نقدية أو عينية أو قيمية , راحت تسلّ من الإنسان – مع كلِّ شروق شمس أو غروبها – بعضاً من مقوماته الإنسانية إلى الحد الذي دفع برسام الكاريكاتير علي فرزات – الذي كسرت أصابعه كإنذار أول على يد عصابات النظام – إلى رسم لوحة يبدو فيها المواطن , وقد أتمَّ ارتداء ملابس الخروج لينتهي بعدها إلى ارتداء السرج استعداداً لبدء يومه .. فقد تحوَّل إلى محض مطية للركوب, غير محمية حتى من اللكز والنخز , إن هي تلكأت من ضيق أو تعب… أما إن علت الصرخة “أنا إنسان” فذاك شأن الثورة السورية مع حاكم قفز حتى على هدي نصائح ماكيافيللي , بالعودة إلى الوراء, لا ليفتِّش عن حكمة الأجيال في الحكم والسياسة , وإنما ليقبض على الأبد الأبوي, مسترشدا بنار نيرون في حماة واستعلاء كاليغولا في روما .
وحين هزَّت صرخات الحرية أبواب القصر الجمهوري , كان كاليغولا الجديد قد قرَّر أن يغطِّي سماء سورية, بدخان الحرائق ورائحة البارود ويملأ دروبها بشظايا الصواريخ ومزق الجثث, حتى لمن لم يرتكب “إثم” المطالبة بالإنسانية والكرامة, عملا بحكمة كاليغولا التي عمل بها الرئيس الأب كما الابن , والتي تقضي بأنَّه (ليس من الضروري أن يرتكب المرء إثما ليحكم عليه بالإعدام )….
كان هذا في الداخل السوري, أما على المستوى الدولي , فلعلَّ من العلامات الفارقة منذ تلك الفترة , ما دأبت وسائل الإعلام على تداوله نقلاً عن الرئيس الأمريكي – كما سواه من الساسة الغربيين – من أن بشار الأسد منفصل عن الواقع … إذ ذاك فُهمت تلك التصريحات على غير ما كانت عليه , ربَّما فزعاً إلى خلاص , وقد رجح ميزان المصالح الروسية والاستراتيجية الإيرانية على الدم السوري , أما وقد زاد وزن اللحم والدم السوري في ميزان الحرية , بينما نقص في ميزان القوى الدولية شرقية وغربية , فقد امّحى الحبر السري لتك التصريحات, لتنكشف سوءاتها , وقد حرصت على إخفائها , فعندما أعلنت دعائيا, ذمَّ الحاكم واصفة إياه بأنَّه منفصل عن الواقع , إنما كانت تقدم له شهادة براءة طبّية مزورة , مرفقة بشهادة حسن سلوك لنفسها تغطِّي بها إثماً , كانت وما زالت تشارك فيه.
لكن الشعب السوري , على فداحة أوجاعه , لم يتلكأ بالرد, وبالحبر العلني (أمريكا …ألم يشبع حقدك من دمنا ) نافضاً عن ثورته غبار عار, حاولت وسائل إعلام النظام أن ترشَّه عليها منذ طلَّتها الأولى , لائباً بعد ذلك – لا ليزيل غباراً يُعمي أو دماراً يقتل – ولكن ليحمي ثورة , باتت في مهب الريح الدولية … بين كاليغولا وماكيافيللي .
المدن