سوريا: تقاعس العرب يستدعي الغرب!
د.خالد الحروب
هناك مجازر يومية في سوريا لا يمكن أن يتغافل عنها من كانت لديه ذرة من الإنسانية، وهناك صمت عربي رسمي يدير وجهه عن تلك المجازر وكأنها تحدث على كوكب آخر. الشعب السوري في مدن وبلدات وأرياف وقرى لا تحصى يتعرض لقمع يلغ في دماء المدنيين ولا يستثني حتى الأطفال، ومع ذلك يستمر الصمت العربي. يعمل النظام على تهجير أبناء الوطن حيث يحاصر المدينة الحدودية “جسر الشغور” من كل الجهات تاركاً منفذاً وحيداً للسكان باتجاه تركيا، ومع ذلك يتواصل الصمت العربي. الصوت الوحيد الذي نسمعه يدين من غير تلعثم مجازر سوريا ويضغط لإيقافها هو تركيا، البلد غير العربي، والبلد الذي كانت له مصالح قوية اقتصادية وجيواستراتيجية مع سوريا، وإلى وقت قريب. وأنات السوريين المطحونين تحت آلة قمع النظام تحمل الأسئلة المريرة: أين الجامعة العربية؟ وأين الحكومات العربية؟ وأين منظمة المؤتمر الإسلامي؟ ولكن لا من إجابة ولا من مجيب.
الاتحاد الأوروبي منشغل بما يحدث في سوريا واتخذ قرارات مقاطعة ضد النظام والعائلة الحاكمة، ومجلس الأمن يجتمع ويحاول إصدار قرار يمكن أن يردع النظام عن الاستمرار في مجازره، والدول الغربية الكبرى، الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، وألمانيا تتعرض لهجوم واسع من منظمات حقوق الإنسان والإعلام وجمعيات المجتمع المدني في العالم بأسره كي تتحرك وتتخذ مواقف أشد. الصمت لا يلف إلا الحكومات العربية والإسلامية ومنظماتها الإقليمية وكأن الشعب السوري وشهداءه لا يستحقون حتى بيان استنكار.
تجد الحكومات العربية والإسلامية نفسها الآن واقفة في نفس المربع الذي تقف فيه الصين وروسيا اللتان تقفان في وجه أي جهد دولي يضاعف من الضغط على النظام في سوريا، وتهددان باستخدام “الفيتو”. وقرار مجلس الأمن الأخير الذي صدر يدين ما يحدث من قمع، تم تمييعه عمليّاً إلى أدنى حد وخلا من أي إجراء عملي بسبب المواقف الروسية والصينية التي تقف الآن عمليّاً ضد الشعب السوري. وإحدى مسودات القرار التي قدمت إلى مجلس الأمن تضمنت إشارة خجولة وردت في بيان لمنظمة المؤتمر الإسلامي تجاه ما يساورها من “قلق” لما يحدث في سوريا، وكان الهدف من تضمين تلك الإشارة تعزيز القرار بأن “الموقف الإسلامي الرسمي” سيكون مؤيداً. ولكن سرعان ما انتفضت منظمة المؤتمر الإسلامي العتيدة ورفضت أن يتم اقتباس الإشارة الخجولة في مسودة البيان، تحت مزاعم عدم توفير أية شرعية للتدخل الغربي في سوريا.
ماذا يعني كل هذا التقاعس في الجانب العربي والإسلامي؟ معناه العملي شبه الوحيد أن قادة العرب والمسلمين يتركون للغرب ومؤسساته ساحة العمل الدبلوماسي والحراك الفعلي لاتخاذ قرارات مؤثرة تحمي الشعوب من قامعيها. ومعناه تعميق الشروخ الانقسامية في الوجدان العربي إزاء تدخل الغرب العسكري في البلدان العربية، ودفع ذلك الوجدان للترحيب بتلك التدخلات. نحن أمام هذه المفارقة المتكررة : هناك شلل عربي رسمي شامل إزاء أية قضية كبرى، ثم هناك لعلعة صوتية عالية ضد أي تدخل عسكري يقوم ليملأ الفراغ القاتل الذي يتركه الشلل العربي.
أي تدخل عسكري غربي يحدث بطبيعة الحال محمولًا على رافعة المصالح الغربية في المنطقة وبحسابات دقيقة، وليس هنا أي مجال للتساذج للمجادلة بغير ذلك -فهذا مفهوم. ولكن التساؤل الذي يجب أن يرافق ذلك دوماً هو: ما الذي يشرعن هذا التدخل ويوفر له الأرضية المنطقية ليس فقط للحدوث بل وللاستدعاء من قبل الشعب نفسه؟ والسياسة الدولية قائمة على المصالح وليس على العمل الخيري، ولكن في الوقت نفسه لا تستطيع كشف وجهها المصلحي السافر. وهناك نسب متفاوتة من الضغوط الأخلاقية التي تأكل من المساحة الكلية المعتمدة على المصلحة. وهذه النسب ازدادت في عصر الإعلام المعولم والتدخلات الإنسانية لأنه ما عاد بإمكان الدول الكبرى أن تتحرك بحرية مطلقة في مسألة تبني سياسات مزدوجة مفضوحة. فمثلاً قد يحدث أن تدخلًا عسكريّاً ما في بلد ما يكون مدفوعاً بنسبة 70% مصلحة ترافقها نسبة 30% تدخلاً إنسانيّاً. والذي يحدث وحدث عادة، من البوسنة وكوسوفو إلى ليبيا وسوريا الآن، أن القمع والإبادة التي يتعرض لها شعب ما على يد نظام لا يكون لها حل إلا بالتدخل العسكري الخارجي. تتقاطع نداءات الاستغاثة الداخلية للشعب المقموع مع مصالح القوة الخارجية المتدخلة المدفوعة بمصالحها من ناحية وبالضغط الأخلاقي العالمي المتزايد من ناحية ثانية. عمليّاً تتقاطع مصالح الشعب المقموع مع مصالح القوة الخارجية والتقاء المصالح هذا يقع في جوهر السياسة. وفي المنطقة العربية هناك خواء على المستوى الاستراتيجي يغري القوى الخارجية بالتدخل، خاصة عندما تصبح مبررات التدخل قوية ونداءات الاستغاثة متواصلة.
على ذلك ليست هناك عبقرية زائدة في المحاججة بأن تدخل الغرب و”الناتو” عسكريّاً في ليبيا وراءه مصالح وقلق غربي بسبب موقع ليبيا المشاطئ لجنوب أوروبا، وبكونها بلداً غنيّاً بالنفط. هذه بديهية سياسية تشير “معاودة” اكتشافها مرة بعد أخرى في مماحكات “الممانعين” إلى سذاجة أو تساذج أكثر من أي شيء آخر. والأمر الذي ما زال يتحدانا جمعيّاً هو السؤال التالي: ماذا نطلب من الشعب الذي يُقمع يوميّاً بوحشية بالغة أن يفعل؟ ما هو “فعلنا” لمساندته في مواجهة النظام القائم الذي يهدده بالقتل والإبادة؟ ثبت لنا خواء وعدم فائدة إرسال معونات من الشعارات الثورية المنددة بالغرب للشعب الواقع تحت القمع. السؤال الذي يتحدانا جميعاً هو ما البديل في ليبيا، مثلاً، عن التدخل الغربي الذي وضع حدّاً لإبادة محتومة لم يتورع نظام طرابلس في إعلان نيته القيام بها صراحة؟ كيف نتأمل الصورة التلفزيونية البانورامية للميدان الرئيسي في بنغازي لعشرات الآلاف من المتظاهرين الذين كانوا ينتظرون مصيرهم المحتوم القادم إلى مدينتهم مع دبابات القذافي التي لم يوقفها إلا قرار مجلس الأمن بالتدخل العسكري والفوري. لماذا صدحت حناجر تلك الألوف بالترحيب بالتدخل الأطلسي بكونه المنقذ الأخير، وكانت تصلي ليومين لأن يمر القرار من دون “فيتو”؟ هذه هي الأسئلة الصعبة التي تواجهنا، التي تكشف في الكثير مما تكشفه الانقلابات الجذرية في سلم الأولويات وسلالم الشعارات، ومواقع الأعداء والأصدقاء، وتواصل صمت المقابر العربية، وغير ذلك كثير.
الاتحاد