سوريا… تلك الجارة التي كنا جاهلين بها
دلال البزري
نكتشف الآن جهلنا بالسوريين، بعد ثورتهم. قبلها كنا نقول «سوريين»، ولا نعني بهذه الصفة الشعب السوري نفسه، كأن نقول «مصريين» أو «فلسطينيين» أو «فرنسيين»… انما «سوريين» للاشارة الى تلك الفئة الضيقة من حكام سوريا الممسكة بتلابيب لبنان، من سياسييه واقتصادييه وكل طامح الى امتلاك حيز في حياته العامة: «السوريون فعلوا»، «السوريون طلعوا»، «السوريون نزلوا»… هكذا كنا اوفياء لمقولة «البعث» نفسه، ووصفه الثابت لسوريا على انها ملك للـ»أسد» («سوريا الأسد»). لم تكن سوريا تعني آنذاك غير حكامها، أو الواقفين على قمة حكمها.
أما عن الافراد السوريين، عن سوريين عاشوا وأبدعوا وكتبوا، فلم نحفظ غير مسلسل «صحّ النوم» الذي أدرج دريد لحام ونهاد قلعي في لائحة الكوميديين المحبّبين. «صح النوم» راج في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الفائت، وألهب مخيلتنا الكوميدية، ولكنه كان يتيما. نهاد قلعي رحل عن هذه الدنيا ودريد لحام لم يعد البطل الشرير الظريف غوار الطوشي، بل صار واعظا في بلاطات السلاطين، «ناقدا» معتمدا لدى هؤلاء و»معارضا» رسميا لهم. باستثناء «صحّ النوم»، لم يحفظ اللبنانيون عن السوريين الا اسماء مبدعين عاشوا خارج سوريا: ياسين الحافظ، نزار قباني، أدونيس. بل يصعب على الكثيرين التصور ان الاسمين الاخيرين هما لحاملي الجنسية السورية، الا بعد معرفة أدقّ.
هكذا كنا اذن نحن اللبنانيين عموما: لكل منا هواه الثقافي او الحضاري، العربي او الاقليمي، او حتى الغربي… الا سوريا. بيننا من يغرف من تراث مصر واشعاعها الثقافي الماضي ما يؤثث به مخيلته الثقافية او السياسية: مصر ما قبل عبد الناصر وما بعده… كنتَ، وما زلتَ، تجد من بيننا من يصف نفسه بالـ»مصري»، استنادا الى حبه لسعد زغلول او ام كلثوم او سعاد حسني… وبيننا ايضا، في العصر الذهبي الفلسطيني، في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، من يتماهى مع الفلسطينيين، يضع الكوفية، وينشد لمحمود درويش، وكل القضية، عبر الاغراق في معرفة النكبة والمخيمات البائسة وعبر الانخراط في صفوف تنظيماتها المسلحة… كانت تلك أيام «الفدائيين». وتجد الآن منذ بضع سنوات الهوى الايراني الذي جعل لبنانيين بعينهم يتقصّدون اعتماد اللهجة الايرانية، واللباس الايراني، والاغاني الايرانية… ناهيك طبعا عن الولاء. والهوى التركي الذي استحوذ على شغف لبناني جديد، بعد مرحلة النقمة على الاستبداد العثماني، وبنغمة شبيهة بتلك التي للنظير الايراني. كل ذلك طبعا بعدما انشغلت فئة اخرى من اللبنانيين بفرنسا وكانت لغتها الام وثقافتها التاريخية والادبية متمحورة حول «أمها الحنون«.
الأمثلة من هذا القبيل لا تنضب. ولكن ما يهم منها هو الانتباه الى ان لبنان، المحاط برّا، بعدو اسرائيلي، مغلقة حدوده الا على النيران، وبشقيق سوري صاحب حدود متاحة، هذا اللبنان كانت انظاره مفتوحة على البحر فحسب. والاستثناءات البرية، المارة طبعا عبر سوريا، كان لها تعبير خاص: «الممرّ». كانت اهواؤنا التي تحتاح الى البرّ لتبلغ «المقرّ»، تستخدم «الممر» السوري، ليس الا.
واذا كانت هذه الاهواء المنتشرة في انحاء الارض تعبر عن ضعف الهوية اللبنانية، صاحبة الحاجة الماسة الى التماهي مع بلدان اخرى، ومع هويات اخرى، الا ان غياب الوجهة السورية عن هذا الانتشار لا يعني بأن سوريا كانت غائبة عن لبنان. انما كانت موجودة وجودا مختلفا عن بقية الاهواء.
كنا قبل الثورة السورية منقسمين الى فئتين: فئة ارتبطت مصالحها السياسية والاقتصادية بـ»سوريا الاسد»، ولا تتفاعل الا مع هذه السوريا: الحاكم الواقف على القمة ورجالاته ومخابراته ورجال اعماله… ثم فئة اخرى لا تريد هذا الارتباط، او لا ترتبط مصالحها المباشرة به، أو لا تحبه: وهي لا تعرف عن سوريا الا عمالها ونواطيرها. وجهلها بالسوريين، وانعدام هواها السوري، اوقعها في عنصرية سهلة، تختلف عن العنصرية تجاه الفلسطينيين، الممزوجة بالاختلاط وبتشابك المصائر وبتعقيدات التوطين. العنصرية تجاه الشعب السوري هي عنصرية تجاه كتلة مجهولة مغمورة من الناس البعيدين القريبين، تدفع ثمن بؤسها والقمع الذي يمارسه نظامها ضدها وضد اللبنانيين.
وهذه من اغرب المفارقات الناجمة عن جهلنا بالسوريين، او تجاهلنا لهم، وبُعدهم عن مزاجنا وذوقنا وأهوائنا، فيما هم أقرب الشعوب الينا، جغرافيا وتاريخيا وحتى عائليا. والتفسير المعقول لهذين البُعد والجهل هو «برانية» النظام السوري، الذي اعتمد، منذ اعتلاء البعث السلطة، على بناء «أذرعه» الخارجية، القريبة والبعيدة، في مسعى حثيث لحماية نفسه وضمان استمراريته. امتداد الأذرع هذا كان مثل فعل الحصار المحكم على سوريا، مثل السور الحديدي الذي احتمت به دول المعسكر الاشتراكي الحليفة له، والتي أمدّته بنماذج تمكن من تشويهها، فوق تشوّهها الاولي؛ فكانت سوريا مثل قلعة عاصية، ليس على الثورة فحسب، أو على مجرد إحتجاج سياسي، انما ايضا على المعرفة والتفاعل. مجازر حماه على يد هذا النظام في اوائل الثمانينات من القرن الماضي، لم تكن لتحصل وتمر مرور الكرام، حتى من وسطنا، نحن جيران سوريا، بأقل تقدير، لولا هذا الحصار، وهو بمثابة تعتيم شامل.
كنا قبل الثورة السورية منقسمين بين فئتين اذن: فئة مرتبطة بالنظام السوري ولا تعرف عن سوريا غير آليات ارتقائها بواسطة نظامها، وفئة اخرى لم تعد تقبل بهيمنة هذا النظام على مجريات الحياة السياسية والعامة في لبنان. أما الآن، وبعدما استطاع الشعب السوري ان يكسر، بثورته، الحصار المضروب عليه، يجد اللبنانيون انفسهم منقسمين بين الفئتين ذاتهما؛ مع الفارق البسيط، ان الفئة الاولى، الموالية له، ما زالت متمسكة باقتصار معرفتها على آليات حماية ارتقائها، تدافع عن هذه الآليات كمن يدافع عن حياته؛ وفئة ثانية ألهمها تعاطفها مع الثورة مَلَكة الفضول، فصارت تسأل وتتابع وتتفاعل، كما لم يسأل ويتابع اللبنانيون يوما عن السوريين منذ نشأة لبنان الكبير. وهذا النوع من التفاعل هو الباب الواسع لمعرفة سوريا من جديد، عبر ديناميكية شعبية خارقة بدأت تثمر فنانين ومغنين ومثقفين وناشطين. ولكن ايضا: الجهل بسوريا لا يقتصر على اللبنانيين، انما يطال السوريين ايضا، وإن بطريقة اخرى: يروي احد المعارضين السوريين في جلسة مغلقة، بعدما اشبع كلامه بالتحليل والوقائع والشواهد، ان الثورة السورية، إن لم تقم بشيء، فانها، على الأقل، سمحت له بمعرفة جغرافية سوريا، بقراها وبلداتها ومدنها المتوسطة… الامر نفسه يحصل الآن عند فئة اللبنانيين الثانية، التائقة الى معرفة المزيد عن سوريا.
صحيح ان متابعة الثورات العربية بمجملها كانت تنطوي على دروس مكثفة في تاريخ وجغرافية كل البلاد التي اصيبت برياحها. لكن المعرفة الجديدة بسوريا لا تضاهيها، حجما وعمقا ولهفة، أية معرفة اخرى موازية. معرفتنا بسوريا وبالسوريين هي مرحلة جديدة من علاقتنا بهم، كما هي مرحلة جديدة انكسار الخوف في قلوب السوريين، وانقشاع حقيقتهم امام اعينهم واعين اشقائهم وجيرانهم واهلهم.
“نوافذ” المستقبل