سوريا ثورة الفقراء والمثقفين للحرية
جهاد صالح – واشنطن.
تدخل ثورة الحرية في سوريا شهرها الثامن، مع أزدياد وسائل القمع العسكرية والأمنية بشكل منهجي ومُنظّم،يُخطط له من القصر الجمهوري ،وتنفّذه وحدات الجيش وفروع المخابرات،أضافة إلى منظومة القتلة والشبّيحة ومرتزقة السلطة . لكن رغم الكمّ الهائل من الدّم والقصف العشوائي للمدن والقصبات، وتصفية قيادات الثورة الشبابية، تزداد وتيرة الغضب الشعبي أكثر، بحيث تحوّل التظاهر إلى حالة يومية حياتية، تعكس نزق الروح الثورية التي تبلورت لواقع بات يفرض ذاته على المجتمع السوري، فأما الموت، أو الحرية، هذان الخياران المقدسان اللذان يمثلان نزعة الخيارالدقيقة في الذات السورية، ووضوحها في رفض الذل وثقافة التدجين والصمت أمام الوحشي الحاكم، فيخرج الشعب للشارع غير خائف من الموت وآلة القتل ، بل يحمل في داخله جنوحا يرتقي لدرجة أسطورية لا جدل فيها، يصنع من المتظاهر إنسانا يرمي بنفسه للحرية مهما كان الثمن، يسقط من حوله أخوته، رفاقه، أطفاله، والدته، زوجته، كل عزيز وقريب، لكن يتحوّل شركاء الحياة إلى أيقونات وقناديل تُشعل من روحه شجاعة مدهشة، وثورية ملحمية تكتب تاريخا جديدا لسوريا بعد عقود طويلة من الإستبداد والمهانة والقهر.
أذا لاتراجع حتى النصر والحريات، هذا هو المشهد السوري بحيثياته ولحظاته، وبات اسقاط الديكتاتور ومجموعته هدفا وغاية سامية يتفق ويشترك كل السوريون عليها، بما فيه الصامتون خوفا، أو مصلحة، أو زئبقية بين السلطة كقيمة نفعية ، والمعارضة والثورة كطريق لمستقبل جديد وحياة ديمقراطية وفضاء ثقافي بلا حدود.
نتسائل لماذا لم يسقط هذا النظام رغم فساد دوائر القرار فيه، وانهيار مفاصل المؤسسات الأمنية والبوليسية والإقتصادية، وتصاعد وتيرة المظاهرات والثورة في الإتجاهات الأربعة لخارطة سوريا السكّانية، ومدى هشاشة بنية النظام الشمولية التي تترنح يمينا ويسارا،وتتماسك بالأعتماد على العنف وبثّ الفوضى والإشاعات، ومحاولته اشعال حرب سنيّة- شيعية (علوية) عبر قصف المساجد، وقتل رجال الدين وأهانة المقدسات السنّية، وذلك لكي يثبّت من كذبته ومراوغاته، أنّ الثورة في سوريا ليست ثورة بهدف الحرية وحقوق الإنسان،وأنما هي ثورة سلفية ،أصولية ، تنطلق من المساجد وتشكل خطرا على المصالح الأمريكية والأوربية، وحتى العربية، وأنّ هذا البديل الإصولي الراديكالي كخلف له، سيكون بداية لسلطة تهدد الدولة العبرية وسلامتها، وخطرا اسلاميا على مسيحيو الشرق.
لكن تنّوع الثورة، وتلويناتها الأجتماعية كسرت ظهر النظام،وعرّته من كل أقنعته المزيفة، وبات مكشوفا أمام العالم أجمع، حين سقط شهداء مسيحييون وكُرد ودرووز، لتكون الثورة السورية لا هوية لها سوى الوطن السوري وكينونته الشاملة لكل المكونات الأجتماعية لسوريا.
رغم استمرار الثورة وشجاعة السوريين،ومحاصرة الأسد ونظامه من قبل المجتمع الدولي والعربي، عبر ضغوطات دبلوماسية ومجموعة من العقوبات الاقتصادية والسياسية ،إلا أنّ النظام ومؤسسته القمعية بقيت واقفة على قدميها،ولو بأدق تفاصيل الضعف واللاتوازن فيها. السبب الأساسي لاستمرارية النظام هو هذه التغريبة السياسية والجغرافية بين الثورة ذات الروح الشبابية والعنفوانية والغير مُنظّمة، وبين فصائل وشخصيات الحراك السياسي المعارض في سوريا. الثورة حية وتمارس عجلاتها دورها في ردم الهوة بين النظام والنهاية ، وهو السقوط، في حين نجد المعارضة تزيد الهوة بينها وبين الثورة، فُتلازم الفوضى، والتمسك بالأنا الأيديولوجية الكلاسيكة، وتقدم للنظام وجسده تنفسا غير مباشرا تطيل من عمره شهورا أكثر، بل دفعت العنجهية والحُمق ببعض شخوص المعارضة ألى أن يرفضوا اسقاط النظام، والعزف على نشيد الحوار وفتح صفحة جديدة عبر محاسبة أصابع النظام،مع بقاء الديكتاتور وتقسيم الكعكة السورية مناصفة. وهذه أرتقت ألى درجة أنّ النظام قَبلَ بها ومنحها مساحة من الحرية والتحرك، كخيار مكروه وأفضل من الأصوات التي تصرّ على انهائه ومسحه من الذاكرة السورية. فيما نجد القوى الأخرى من اعلان دمشق تدفن رأسها في اللافعل، وتدير ظهرها لتاريخية المرحلة ،وتكتفي بمناظرات وبيانات مؤيدة لا ملح فيها ولا خبز، وتكتفي بمواقف متناقضة ومخجلة، رغم أيجابيتها الوطنية، ألا أنها لاتتلائم مع مطالب الشعب السوري وحريته، والتي تقتضي من اعلان دمشق أن تكون في موقع قيادي للثورة والشارع. أما الحركة الوطنية الكردية والتي تتمزق في شتات بسبب سياسات السلطة بحق الشعب الكردي ، وقدرة الأجهزة الأمنية على أحداث تصدّعات وشروخ داخل البنية الكردية، صنعت من بعض شخوصها انفصام عن الذات الكردية الواحدة،بحيث باتت تعمل عكس عقارب التاريخ والواقع السياسي والإجتماعي في سوريا،لكن الجماهير الكردية كانت تملك من الوعي بما يجعلها تكون جزءا حيويا من جسد ثورة الحرية، ومنحها طابعا منظما وحيويا هو مشاركة بعض الزعامات والقيادات الكردية في المظاهرات بشكل أسبوعي،وقيادتها أحيانا خوفا من التلاشي والضياع أمام صهيل الثورة وعدم انضباطها سياسيا وأجندة. ورغم ذلك نجح الكرد في خلق كتلة كردية واحدة تسعى لأن تكون كتلة وطنية سورية توفّق بين قوى المعارضة وتقاطعاتها في اسقاط النظام وبناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية.
لكن أكثر ما كسر ظهر الثورة وغذّى النظام نحو الإستمرارية وخلط موازين القوى والأوراق، هم شخوص الخارج من السوريين المعارضين، والدخلاء على الثورة. بحيث ظهرت شخصيات سورية مجهولة وغامضة، بعضها كان في حضن النظام بالأمس، وآخرين يرسمون مسارات لهم تيمّنا أن سوريا كعكة ومناصب سيادية وحكومية،ولابد أن يكون لهم حصة الأسد منها، بحيث خلقت هذه الحالة المؤلمة جماعات توزّعت في كتل صغيرة منقسمة، لا تعترف بالآخر ، وتتكلم باسم الثورة وتعمل من تحت لوائها، فكانت القاهرة وانطاليا واستنبول وبروكسيل وباريس وواشنطن شواهد على هذا التشرذم السوري، بحيث باتت الثورة في الداخل مع شهدائها وشجاعة ثوارها منعزلة عن هذه الفوضوية السياسية في بنية المعارضة السورية في الخارج، بل عكست أزمتها حتى على قوى الداخل، حتى وصل الأمر أن يرفع الشعب الثائر صوتها عاليا طالبا وحدة المعارضة السورية.
كان النظام سينهار سريعا لو انتفضت الطبقة البرجوازية والرأسمالية السورية، وقدّمت منتوجها الاقتصادي وقوّتها للثورة، وسحبت أرصدتها ودعمها من تحت قدمي النظام، لكن تظل هذه الطبقة حتى اللحظات الأخيرة متمسّكة بمن يملك السلطة والقوة ،وتقاطع مصالحها الجشعة مع الحاكم ومنظومته، رغم ذلك نجدهم قد حوّلوا ملايين الدولارات ألى البنوك الخارجية في اشارة للطلاق التنازلي مع النظام ومؤسساته،ولكن بوتيرة بطيئة جدا،قد تتسارع في ظل العقوبات الاقتصادية الدولية القاسية والتي تحتاج ستة شهور لتحطيم بنية النظام الاقتصادية نهائيا،مما يساهم في سقوطه.
ثورة الفقراء ومثقفيها طالبوا بحماية دولية وتدخل انساني لحمايتهم كمدنيين مسالمين وعُزّل من الجيش والدبابات والطائرات وفرق الموت من الشبيحة، لكن أصوات بعض المعارضة ممن اكتسبوا عقلية شعاراتية من النظام القمعي في حُقب استبداده الطويلة، ورفضهم لكل أشكال التدخل الأجنبي والعربي في سوريا، وقراءتهم الخاطئة لمعاناة وألم الشعب السوري ، قدّم خدمة مجانية للنظام في أن يخلق لنفسه فضاءا جديدا مستفيدا من تشرذم المعارضة بشخوصها المريضة، والغير ناضجة مع واقع الثورة وظروفها،ومن تردد المجتمع الدولي في اتخاذ قرار قطعي بحق الأسد ونظامه، وروسيا والصين اللتان تشكلان حجر عثرة أمام وضع نهاية لنظام البعث الذي أنتهى في خرائط الدول الكبرى ومصالحها معه.
نعم هي ثورة الفقراء والمثقفين ، وهي ثورة مدنية سلمية للحرية والإنسان والخلاص،لكن يحتاجون دعما عربيا ودوليا وانسانيا، ومعارضة تلتقي لزمن قصير وتتفق على اسقاط هذا النظام وتكون صوتا سياسيا للثورة، وتضع خارطة طريق نحو سوريا الديمقراطية.
في ظل توافق سوري سياسي وشعبي على آلية اسقاط النظام عبر انتفاضة سورية واحدة وشاملة،وحماية دولية انسانية للشعب الثائر من عمليات الإبادة والقتل والجرائم ضد الإنسانية، وتحويل نظام الأسد للمحكمة الجنائية الدولية ،وسحب الدول لسفرائها وطاقمها الدبلوماسي،سينهي نظام البعث خلال شهور قصيرة،وسيُكتب تاريخ جديد لسوريا والمنطقة ،سيمكّن السوريين من تأسيس نظام مدني وديمقراطي عبر صناديق الإقتراع، يكون الجميع شركاء في الوطن والحياة بعدالة ومساواة، في ظل دولة القانون والمؤسسات، وبروح مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.