صفحات سورية

سوريا: ثورة على الذات/ محمد صبرا

 

 

في الميثيولوجية الإغريقية كانت نقطة ضعف أخيل ومقتله هي كعبه الذي لم يغمس بماء الخلود، وعلى الرغم من كل الاحتياطات التي اتخذها لتجنب مصيره المحتوم، نفذ سهم الموت إلى كعبه فأرداه قتيلاً.

يشبه السوريون إلى حدّ كبير أخيل الإغريقي، لكن نقطة ضعفهم ليست في كعبهم، بل كانت على الدوام في الرأس، في المنظومة الفكرية والمعرفية التي يتبنونها. كان مقتل السوريين في تعريفهم لذاتهم وللآخر، وفي تحديد دورهم التاريخي في المنطقة.

سورية التي نتحدث عنها وكأنها شيء واحد، هي في الحقيقة شيئان، سورية الواقعية التي تمرض ولا تموت، وسورية الأخرى المتخيلّة والموهومة التي تتبدل باستمرار، فمنذ مطلع القرن العشرين وبعد انسحاب الدولة العثمانية من سورية وتركها في حالة فراغ سياسي، وجد السوريون أنفسهم كجسد كبير من دون رأس، وكانت محاولتهم الأولى لبناء كيان سياسي وهوية مميزة، فاضطروا يومها لاستيراد رأس من الجزيرة العربية، وأعلن الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على سورية في عام 1920، إلا أن هذه المحاولة انتهت على يد القوات الفرنسية الغازية. إن تاريخ السوريين يظهر حجم المعاناة من مشكلة عدم وجود رأس ينبثق تلقائياً من الجسد، فالسلطة في سورية، خلال الاعوام الألف الماضية، كانت مستوردة دوماً، ولم تكن نتاج فعاليات المجتمع السوري المستقر ظاهرياً، والحامل لتناقضات عديدة في الباطن.

لقد بقيت مشكلة السلطة – بمفهومها الشخصاني المعيَّن – هي مقتل السوريين على الدوام، وهي المحرك الأساس في تاريخهم، فقد كان السؤال الأكثر إلحاحاً على أذهان السوريين هو “من سيحكم..؟” ولم يتحول هذا السؤال إلى السؤال الأكثر صدقية “كيف سيحكم..؟”. كان هم السوريين الأول هو البحث عن حاكم، وليس عن نمط الحكم، ولذلك لم يكن مفاجئاً هذا التحول السريع من نظام ملكي إلى نظام جمهوري، فلم يكن هذا مهماً بل كان شخص الحاكم هو الأهم. وقد طبع هذا التاريخ السوريين بسمة قدرية، تمثلت في فهمهم لمسألة الحاكمية بالارتكاز على مفهومها السلطاني المطلق من دون أي محاولة جدية للتفكير ببناء نمط حكم يكون هو الأساس في اجتماعهم السياسي.

لقد أظهرت الثورة السورية في عام 2011 عمق هذه الهوة الفاصلة التي تفصل بين جسد السوريين ورأسهم، ومدى التشوّش في منظومتهم الفكرية، وهو الأمر الذي أدى إلى ممارسات مفتوحة على جميع الاحتمالات من جانب الجهات كافة. فقد كانت الطغمة الحاكمة تبني خطابها انطلاقاً من شعارات قومية عروبية متعالية على الواقع السياسي والجغرافيا، ولم تجد حرجاً في الارتداد إلى خطاب ما قبل وطني وطائفي ضيّق، ولم تخجل من التصريح بأن دورها هو حماية الأقليّات في مواجهة أغلبية وجدت نفسها فجأة من دون شعارات أيديولوجية أو تعبوية أو فكرية. كان هذا الخطاب معبراً عن انفصال الرأس عن الجسد، وعن مدى الهشاشة التي تعاني منها منظومة السوريين الفكرية والسياسية.

بالمقابل، ارتدّ بعض أجزاء الجسد إلى البحث عن منظومة أخرى بديلة لشعارات نصف القرن الماضي، ومرة أخرى أيضاً وقع السوريون في فخ سؤال الحاكمية بمعناها السلطاني، وتجاهلوا معناها الكيفي، أي نمط الحكم، إذ قبل السوريون الخارجون عن طاعة الطغمة الحاكمة أمراء أجانب على مناطقهم، “تونسيين ومصريين وعراقيين وشيشيان”، ولم يجدوا حرجاً في وجود أميرٍ مصري أو عراقي أو شيشاني يحكم مدينة سورية، فهو أخ مجاهد جاء لنصرتهم. كذلك، وجدت الطغمة الحاكمة ومؤيدوها في المقاتلين الأجانب، الإيراني والعراقي واللبناني والأفغاني، أبطالاً جاؤوا يساعدونهم على تثبيت الجسد وإعادته إلى الانصياع لأوامر الرأس. لم تكن مثلاً حواجز الأجانب المنتشرة في شوارع عاصمتهم تثير أي حرج وطني لديهم.

لقد أظهرت الثورة السورية، بشكل مفاجئ وسريع، عمق إشكالاتنا التاريخية التي كنا نقفز فوقها دوماً بالتغني بسورية المتخيلة والموهومة، فقد كانت هذه الثورة، التي كنست جميع المفاهيم، فرصة تاريخية أمام السوريين لإعادة بناء اجتماعهم السياسي على أساس المواطنة والانتماء للإقليم، وليس اجتماعاً حول سلطة مستوردة أو مصنوعة أو مدعومة من الخارج.

إن حالة الفوضى التي تعيشها سورية اليوم ليست شاذة وغريبة، بل ربما كانت نتاجاً طبيعياً للتشكل التاريخي المشوّه لسورية ذاتها، لكن يبقى الخروج من هذه الحالة ممكناً وضرورياً، وذلك عبر إعادة إنتاج الذات السورية على أساس الهوية الوطنية المتعينة في الواقع والمطابقة للكيان، ومن خلال بناء الدولة الوطنية السورية، دولة جميع مواطنيها، وبناء نظام حكم يكون نتاجاً لهذا المجتمع، ويشكل حلاً لجميع تناقضاته، وحاضنة لحراكهم السياسي والاجتماعي.

بناء الدولة الوطنية المحايدة هو انتصار السوريين على تاريخهم وظرفهم المنتِج لهم، وهو الانتصار الأكبر في ثورتهم، وليس إسقاط الطغمة الحاكمة بمفهومها الشخصاني فحسب، أي لا بد من إسقاط المنظومة الفكرية المنتجة والمؤسسة لمفهوم الحكم عند السوريين حتى لا تتم إعادة إنتاج طغمة حاكمة جديدة بشعارات مختلفة وبرايات أخرى. بهذا المعنى، تصبح ثورة آذار 2011 ثورة على الرأس الفاني، وثورة السوريين على ذاتهم وتاريخهم، وثورة للبناء والتجدد، على الرغم من قتامة المشهد وفداحة التضحيات.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى