صفحات المستقبل

سوريا: ثورة واحدة لا تكفي/ فادي الداهوك

نجح النظام في تصدير الوجه القبيح للمعارضة

هزمنا…

عسكرياً وسياسياً، إنسانياً ومعنوياً. منازلنا لم تعد ملكنا، أو ربما لم تبق أصلاً. قرى ومدن كاملة هدمت. ونحن الآن لا نملك شيئاً، حتى خيمة اللجوء تلك ليست لنا، وخيار ألا نصالح ولو “قيل رأسٌ برأس” كما أوصى الشاعر أمل دنقل لا نملكه، فما يحصل في سوريا لا يشبه أي تجربة أخرى.

 منذ الأسابيع الأولى للثورة ومشاهد مفجعة تبث كل يوم على شبكات التواصل الاجتماعي، لدرجة أن ذلك  يطرح السؤال، هل هذه التكنولوجيا كانت نعمة أم نقمة؟

 فإذا كانت الثورة السورية اعتمدت على التكنولوجيا في إيصال صوتها للعالم، فإن النظام، ربما، استطاع أيضاً من خلالها بث الرعب لكل من تسول له نفسه الخروج عن طاعته.

 لم يحصل أن شوهد في أي حرب سابقة جنديٌ يتباهى بإعدامه عدداً من الضحايا وهم مكبلين، بعد أن يشعل النار بأجسادهم، أو أن يقوم آخر بإشعال فتيل برميل محشو بالمتفجرات بسيجارته، ثم يرميه من الطائرة على بيوت المدنيين. كيف لعقلٍ أن يتصور حدوث هذا، أو أن إنساناً يقدم عليه؟

كل هذا كان يفعل فعله في بث الإحباط وتصوير فوز الإجرام حتى قبل أن يحقق انتصاره.

مع بداية توارد الأنباء عن مواجهات مسلحة تحصل بين قوات النظام ومسلحين في مناطق مختلفة، كانت الثورة تنكر تلك الحقيقة بدلاً من أن تواجهها بشفافية لتؤطرها ضمن مسارها الصحيح، دون أن يؤدي إلى كل هذا التقهقر الذي أصاب الوجه العسكري للثورة والذي كانت نواته انشقاقات بالغة النبالة، جوهرها انتصار للثورة تمثل في انشقاقات لضباط حسموا أمرهم باكراً، منذ أول لحظة أملت عليهم أخلاقهم ذلك، أمثال المجند وليد القشعمي، أول منشق عن جيش النظام.

 لاحقاً تشكل لواء الضباط الأحرار. كان ذلك التشكيل فكرة ضابط منشق، اسمه حسين هرموش. تمكّن النظام من اعتقاله في كمين بدأ في تركيا، حيث كان يتواجد الضابط، وانتهى على شاشة التلفزيون السوري في دمشق. كان هذا الانكسار العسكري الأول للثورة السورية.

  لكن المشكلة لا تكمن هنا فقط. في الوقت ذاته، كانت شخصيات كثيرة تحرض على الأعمال العسكرية، ولا سيّما الشخصيات التي نظّرت الى العسكرة من منطلق طائفي، أمثال الشيخ عدنان العرعور، الذي دخل هذا الغمار بكل ثقة، وكان يقضي ساعات على شاشات الفضائيات الدينية وهو يحثّ المتظاهرين على حمل السلاح. وهذا ليسَ اتهاماً، بل حقيقة كانت تحصل على الهواء مباشرة، وتبعه في هذا المنطق عدد من السياسيين الذين خرجوا بتصورهم الضيق وقصر نظرهم تجاه الأحداث من خلال إصرارهم على توجيه الثورة إلى المواجهة العسكرية مع النظام دون امتلاكهم أدنى شرط لذلك.

وعندما تحقق لهم ذلك، ارتفع عدد الضحايا اليومي عشرة أضعاف وفق ما تظهره الإحصائيات التي توثق الضحايا منذ اليوم الأول وحتى الآن.

 قرار المواجهة المسلحة الذي ارتكز في القتال على عناصر مدنية لا تملك خبرة عسكرية في مواجهة النظام شكّل نقطة خلاف بين نهج لواء الضباط الأحرار والجيش السوري الحر الذي أسسه العقيد المنشق رياض الأسعد. فبينما كان نهج الأول أن القتال يقع على عاتق العسكريين المنشقين فقط كان الثاني يدعو المدنيين إلى حمل السلاح وتشكيل مجموعاتهم، التي تم تعويمها إعلامياً على حساب تشكيل الهرموش، لتبدأ في ما بعد قصة ولادة التشكيلات العسكرية المتناحرة فيما بينها على السيطرة. ذلك الصراع الذي كان في أكثر الأحيان صراع رتب عكست نتائجه على أرض الواقع في استبعاد الكثير من الضباط وبقائهم في دول الجوار مثل ما حصل مع الأسعد نفسه.

 كل ذلك أضعف الصوت المقابل الذي كان يحذّر من العسكرة في صورتها الأخيرة من أنها انتحارٌ للثورة، ما أدى إلى حالة قطيعة بين الصوتين وصلت حد اتهام الرافضين لهذا الشكل من الصراع المسلح بخيانة الثورة.

 بدوره استغل النظام ذلك وحقق ما كان يحاول إقناع العالم به منذ بداية الثورة، بتحقيقه فرضية العصابات المسلحة التي نتجت عن فوضى تشكيل الكتائب، ولكي يكتمل هذا السيناريو الذي رسم له النظام تم استبعاد الناشطين المدنيين إما بدكهم في السجون أو إجبارهم على مغادرة سوريا.

 في طور تحول المشهد في سوريا، كان المتظاهر يتحول إلى مسلح، ثم إلى مجاهد، ثم إلى تكفيري، ما أدى إلى اختزال فعل الاعتصام والتظاهر والقتال بإطلاق وصف “المجاهد” على أي مشارك في تلك الأفعال، ذلك الوصف الذي تغنى به إعلام الثورة وبنى عليه النظام فرضية أنه يقاتل القاعدة، قبل اقتحام “جبهة النصرة” ومثيلاتها من الكتائب المتشددة، للمشهد القتالي الذي توجت انكساره طغيان “الدولة الإسلامية في العراق والشام”. تلك التي ساهمت في القضاء على آخر الملامح المدنية للثورة من خلال اعتقالها وتصفيتها لناشطين مدنيين وإعلاميين وشلّت نفوذ الكتائب المعتدلة حتى قضت عليها تماماً، مشكلةً مع النظام علاقة مصالح، وصلت حد أن تبيعه النفط فلا يقاتلها ولا تقاتله، وسط عجز كامل من قبل المعارضة السياسية وهيئة أركان الجيش السوري الحر عن إدانتها .

 على الصعيد السياسي نجح النظام في تصدير الوجه القبيح للمعارضة على شكلين، داخلي رافض ومخوّن للخارج، ويدعي امتلاك حق تمثيل السوريين انطلاقاً من مواقف مبدئية لا يجوز المساس بها، فوضع لاءاته الرافضة لأشياء لم يكن أحد قد طرحها بعد، التدخل الخارجي، الطائفية والعنف، بينما كان آخر اثنين منها شكلاً تجميلياً للأول، أما المعارضة الخارجية في الوقت الذي كان أداؤها الدبلوماسي أكثر سذاجة من لاءات نظريتها الداخلية، استسهلت إمكان تحقق تدخل عسكري خارجي من خلال تحريض الشارع على طلب تلك الأوهام التي ملّ المجتمع الدولي من تكرار تصريحاته بعدم إمكانية تدخله عسكرياً في الأزمة السورية.

 توّج انكسار المعارضة الخارجية أخيراً بتشتتها وانقسام تبعيتها للعديد من الأجندات الإقليمية والدولية ما جعلها أشبه بمكاتب علاقات عامة أكثر من كونها معبراً عن إرادة شعب ثائر.

 على المستوى الإنساني، كان كافياً لإعلان الهزيمة الإنسانية، ما استطاع النشطاء توثيقه لعدد ضحايا الصراع الذي تجاوز الـ 100 ألف شخص من الطرفين، وأكثر من 7 ملايين نازح داخلي وخارجي ومئات الآلاف من المعتقلين ومجهولي المصير، جميعهم خذلهم العالم حتى تقزّمت أحلام السوري من الحرية والكرامة والعدالة إلى خيمة تؤويه في مساحة من الأرض يدفع بدلها في لبنان، ويحبس فيها في الأردن وتركيا، وفي أحسن الأحوال تجنح أحلامه ليستقل قارب صيد مع العشرات من أمثاله قد يغرق بهم في عرض البحر قبل وصوله إلى دولة تمنحه اللجوء.

 كل ما سبق ذكره هو بمثابة حقائق فرضت نفسها ويتحدث بها اليوم أي سوري ناصر الثورة ولا بد من مواجهتها، فلا يعيب الثورة أن تقف أمام أخطائها وانكساراتها، واعترافها أن النظام انتصر كمجرم، وأن الدول الإقليمية ربحت قرار بندقيتها، وأن الشعب المحاصر بالقصف والجوع والبرد لم يشفع له هتافه “يالله مالنا غيرك يا الله”.

 حقيقة واحدة تدفع السوريين لإكمال ما بدأوه، أهمها أنهم واثقون أن العودة انتحار، وذلك هو أساس العامل الأخلاقي الذي يعتبر الرافعة الوحيدة للثورة، والذي لم تكن تملك سواه عندما اندلعت، فجميع ما سبق ذكره هو عوامل طارئة. وهذا العامل الأخلاقي الذي ألهب المدن السورية لتنصر بعضها، هو الحقيقة التي شكلت الاستمرار للثورة التي قاربت على دخول عامها الثالث، وسيدفعها لإكمال ما بدأته. ثورة على النظام والمعارضة وعلى السلاح الدخيل وكل ما أصابها من هزائم.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى