صفحات العالم

سوريا.. دليل الديكتاتور!


عادل الطريفي

في استعراض ظاهر للثبات والسيطرة، خرج الرئيس السوري بشار الأسد صحبة زوجته ليشارك في التصويت على استفتاء خاص بتعديل الدستور المعطل منذ 1973، وفيما بدا أنه محاولة لطمأنة الموالين له، أكد الأسد أن قواته تحكم السيطرة على الأرض، بينما يفتقد السيطرة على الفضاء، في إشارة إلى الإعلام العربي والأجنبي اللذين يتهمهما بالتحريض ضده. يقول الأسد: «يمكن أن يكونوا أقوى في الفضاء لكننا أقوى على الأرض من الفضاء، ومع ذلك نريد أن نربح الأرض والفضاء».

خلال الشهر المقبل، تكمل الاحتجاجات السورية عامها الأول من دون أن تتمكن من إسقاط النظام، على الرغم من أن فاتورة الخسائر البشرية والمادية على جانبي المعارضة والموالاة كبيرة للغاية. حتى اليوم قتل ما يزيد على الـ9 آلاف قتيل، وقرابة 15 ألف جريح، في حين تجاوز عدد اللاجئين مائة ألف؛ 80 ألفا في الأردن وحده، و19 ألفا في تركيا، و6 آلاف في لبنان. أما المؤسسات الحكومية، والأوضاع المعيشية (ناهيك عن الانهيار الاقتصادي) فقد تعطلت بالكامل منذرة بانهيار تام.

ووفقا لبعض التقديرات، فإن توقف السياحة في سوريا منذ أبريل (نيسان) الماضي، أدى إلى خسارة ما يقارب 15 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي، بينما تسبب توقف الصادرات النفطية في خسارة ما يقارب 30 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي. أما الاحتياطي من النقد الأجنبي لدى البنك المركزي فقد انخفض من 22 مليار دولار إلى 10 مليارات.

تقول وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، لشبكة «سي بي إس» الإخبارية، بعد انتهاء مؤتمر «أصدقاء سوريا»: «لأنه ليس مجرد رجل واحد، بل هو نظام، ونعتقد أننا وضعنا الكثير من الضغوط عليه، فسيكون هناك حتما نقطة انهيار.. إنهم لا يمثلون الشعب السوري بعد الآن، ليسوا إلا عائلة، وربما حزب البعث، مجموعة ضيقة من المنتفعين» (26 فبراير «شباط» 2012).

ولكن إذا كان الأسد مجرد رجل واحد يعتمد على عائلته وجماعة صغيرة من حزب البعث، فما الذي يفسّر صموده (النسبي) لأكثر من عام؟

يطرح بروس دي ميسكيتا وأليستر سميث (من جامعة نيويورك) في كتابهما «دليل الديكتاتور: لماذا سوء التصرف هو دائما (تقريبا) سياسة جيدة» («ببلك أفيرز للكتب» 2011)، تفسيرا قد يساعدنا في فهم الأسباب التي من أجلها يظل حكام سيئون (أو – إن شئت – ديكتاتوريون) في الحكم عقودا وفترات طويلة على الرغم من فساد سياساتهم. بحسب ميسكيتا وسميث فإن الثقافة العامة حول السلطة والحكم لا تزال سطحية ومحصورة في كتب كلاسيكية مثل «الأمير» لنيكولا ميكافيللي (1532) أو «اللوفيثان» لتوماس هوبز (1651). إنه على الرغم من أهمية هذه الكتب في الفلسفة السياسية، فإن ديكتاتوريي أفريقيا مثلا ليسوا بحاجة لقراءة ميكافيللي للسيطرة على الجيش والسلطة. يقول موبوتو سيسي سيكو – ديكتاتور زائير – (1997 – 1965): «ما هو مهم.. المال. يحتاج الزعيم إلى النقود والذهب والماس لكي يشغل مئات القصور، ويطعم زوجاته، ويشتري السيارات للملايين من لاعقي الأحذية، وأن يعزز ولاء الجيش بالأعطيات، ثم بعد ذلك أن يتبقى لديه ما يكفي من الفكة ليودعه في حساباته السويسرية».

يجادل ميسكيتا وسميث في أن ما يحتاجه الزعيم للبقاء ليس بالضرورة سياسات جيدة ولا حتى قصورا أو تيجانا عاجية على الطريقة الأفريقية، بل إلى تحالف ناجح (winning coalition)، أي أن بقاء النظام الديكتاتوري (أو الديمقراطي) يقوم على عناصر مادية وبشرية تمكّنه من كسب (أو شراء) ولاء جماعة صغيرة، ولكنها نافذة، وإلى حزمة من السياسات والمؤسسات التي تضمن له الهيمنة ضد منافسيه، ويلخص المؤلفان تلك القواعد الضرورية (أو ما يسميانه «دليل الديكتاتور») إلى خمسة: أولا: أبقِ تحالفك الناجح (أي الأعضاء الأساسيين النافذين فيه) أقل ما يمكن حتى تكون السيطرة مباشرة، فالكثرة والتشتت في القرار تضعفان سيطرة النظام. ثانيا: اختر عناصر التحالف من قطاع واسع ومتنوع من القاعدة الشعبية بحيث لا تتحول إلى نظام أقلية أو نظام نخبوي. ثالثا: تحكم في الدخل المادي للبلد وتوزيع الثروة بحيث تبقى الأكثرية فقيرة، ولكن تمنحها الضروري (عبر الدعم الحكومي شبه المجاني للخبز والوقود، لكي لا يثوروا، وبحيث تكون هناك فرصة مادية لأولئك الذين يتطلعون للصعود عبر خدمة النظام. رابعا: اقتصد في الدفع لأولئك الذين يدينون لك بالولاء حتى لا يطمعوا في أن يحلوا مكانك، أو ينافسوك على ما لديك. خامسا: لا تسحب المال من جيوب الموالاة لكي تحسن أحوال الناس، فعندئذ تفقد الموالين لك، ولا تربح الشعب.

تلك بالتأكيد قواعد سيئة لأي زعامة، ولكن كما يشرح المؤلفان فإن بعض السياسات السيئة ضرورية لاستدامة حكم الديكتاتور، كما تضمن له الولاء لأجلٍ ما. لقد كُتب عن الديكتاتورية والحكم العسكري في العالم العربي الكثير من زاوية أخلاقية، بحيث يفسر سقوط كل طاغية بسبب سوء سياساته القمعية، ولكن ما ينبهنا إليه كل من ميسكيتا وسميث أن الاستبداد لا شك ينتهي إلى زوال، ولكن سوء سياسات المستبد لا تعني بالضرورة السقوط الحتمي، بل يستمر الديكتاتوري متى ما كانت معادلة «التحالف الناجح» قائمة، حتى يقضي عليه المرض أو الشيخوخة، أو الصراع على الخلافة.

في سوريا، يمكن القول إن معادلة «التحالف الناجح» كانت متوفرة لنظام حافظ الأسد وقد تعرضت للتحدي في 1982 في حماه عندما نافسه الإخوان المسلمون، وأيضا ما بين 1983 و1984 حين مرض الأسد الأب، واشتد الصراع على خلافته بين أخيه رفعت، وعبد الحليم خدام، وزهير مشارقة، ومصطفى طلاس. ولعل قدرة الأسد الأب على المحافظة على المعادلة، وفرت له فرصة التوريث في عام 2000، بينما نلاحظ أن سياسات ابنه الراديكالية خلال العقد الماضي، جاءت على التوازن القديم فأخلت به، ولذا كان من المثير للانتباه أن الأرياف السورية التي أسهمت في بقاء والده في الحكم (كريفي علوي) هي التي ثارت عليه الآن.

ولكن ما الفرق بين «التحالف الناجح» لوالده في الثمانينات والتسعينات، وتحالفه الفاشل اليوم؟

في قصة غلاف كتبها باتريك سيل لمجلة «المجلة» بعنوان «لعبة الأسدين: معادلات الحكم في تاريخ سوريا» كان هناك 20 إلى 30 شخصا تحت هرم السلطة يمثلون الصف الأول للنفوذ والسلطة في (سوريا حافظ الأسد)، حيث يقوم الرئيس باستشارتهم وتوزيع المهمات عليهم بشكل متساو حتى يحفظ التوازن بينهم. يقول سيل: «الأسد قابض على العدد والأدوات التي بواسطتها يسيطر على سوريا»، فهناك مؤسسة الجيش التي عين بنفسه كل قياداتها منذ أن كان وزير للدفاع، وهناك سرايا الدفاع (ميليشيا خاصة) التي كان يشرف عليها أخوه رفعت بفروعها الأربعة، وكان واجبها حماية النظام ضد انقلاب الجيش، وبعد ذلك كان لديه الحرس الجمهوري بقيادة صهره الجنرال عدنان مخلوف، المكلف حماية الرئيس ضد أخيه والبقية. لذلك حينما اشتد الصراع على وراثته تمكن الأب من طرد شقيقه، وتصفية الجنرالات الطامعين، لا سيما العلويين؛ بين عامي 1983 – 1984 (العدد 215، 30 مارس «آذار» 1984).

بالنسبة لبشار الأسد فإن المعادلة تعرضت لسوء التدبير، فقد أطلق لأخيه ماهر اليد في الشؤون الأمنية، ولأقاربه من آل مخلوف الاستئثار بالفرص التجارية، بحيث تحول إلى الخط الراديكالي خارجيا، وأجرى إصلاحات اقتصادية ليبرالية أضرت بموازنات الدولة الريعية لا سيما اعتماد الريف والطبقات الفقيرة على الدعم الحكومي. ووفقا لمسح أجرته مؤسسة «إلكساندر هاملتون» بجامعة نيويورك (2007)، فإن نظام بشار الأسد يعتمد على 3600 شخص لضمان النفوذ والسيطرة. كما تشير الدراسة إلى أن العلويين، الذين يمثلون 12 في المائة من السكان، يشغلون قرابة 70 في المائة من الضباط ذوي الرتب القيادية، بينما يشكلون الأغلبية في الحرس الجمهوري والفرقة المدرعة الرابعة التي يديرها ماهر الأسد. أي أن أولئك الذين يدينون بالولاء للنظام لا يشكلون إلا أقل من واحد في المائة من مجموع السكان البالغ 22 مليونا.

لا يزال النظام يتمتع بحلفاء دوليين، كروسيا والصين، ويتلقى الدعم من دول مثل إيران والعراق ولبنان، ولكن قد لا يكون بإمكانه الاستمرار طويلا لأن القواعد التي مكنته من البقاء طوال العقود الماضية تتفكك الآن، وحين ينفد ما لديه من المال، فإن أول المغادرين لسفينة النظام الغارقة هم أولئك الذين يعتمد عليهم للبقاء اليوم.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى