سوريا.. دولة الظل/ سامر محمد اسماعيل
تبدو العلاقة بين المثقف والدولة في ظل الثورات العربية علاقة النيئ بالمطبوخ،؛ فالشعوب العربية لم تختبر تجربة الدولة، بل ومنذ عهود استقلالها المعاصرة نشأت السلطة كبديل نهائي عن الدولة وكعقد اجتماعي مع الشعوب التي تحكمها؛ لتبقى الدولة في ذهن سواد شعوبها ومعظم مثقفيها في آنٍ معاً عبارة عن أجهزة قمع عملاقة، تسهر ليلا نهاراً على راحة رعاياها وسرقتهم وبناء السجون الممتعة لهم، مجمّلةً ذلك بديكورات ثقافية هي في جزئها الأعظم تكون لدفع الشبهات عن السلطة وأصحاب شرطتها، وذلك عبر برامج ثقافية وهمية تنفذها هذه السلطة أو تلك عبر مثقفي بلاطها ودهاقنتها، لكن حال المثقف أيضاً لم يكن بأفضل من السلطة التي ناصبته العداء لسنوات طويلة، بل ساهم القمع والتهميش واعتقالات الرأي في تزيين حلم السلطة للمثقف العربي، دافعةً إياه لتقمص دورها ومحاكاة بطشها وتقليد آلة عسفها، ولعب دورها وانتحال صفاتها، وبين هذا وتلك لم يساهم المثقف – حتى في ظل فرصة تاريخية حاسمة كالثورات العربية – في تغيير الخطاب الثقافي للسلطة أوتفكيكه وفضح سياساته الإلغائية، بل تفرّغ المثقف في سوريا – على سبيل المثال – لتصفية الحساب مع من كانوا في السلطة الثقافية منها قبل السياسية، وليدخل هذا المثقف في مهاترات الاستزلام ذاتها، والتخوين المباشر لزملائه ورفاق دربه، ولينقسم المثقفون إلى فريقين؛ مثقفو داخل وخارج، معارضة ونظام، ومع أن هذه التصنيفات لا تغدو أن تكون سوى تصنيفات إعلامية وتراشقات سياسية بائسة وممجوجة ومملة، إلا أنها للأسف تشكل مسطرةً للقياس لدى كثيرين من مثقفي سوريا المقيم منهم والمهاجر. هنا الجميع مع الجميع والجميع ضد الجميع في الوقت ذاته، حتى الحراك الشعبي الذي كان على النخب أن تقوده وتتصدر تظاهراته وفعالياته تُرك فريسةً لجهله وعدم خبرته وطفوليته، إذ أن معظم هذه النخب آثرت الخروج من سوريا في الأسابيع الأولى من الثورة، تاركةً الناس لأقدارهم كما في مسرحية سعد الله ونوس الشهيرة «فيل يا ملك الزمان» فالجميع كان متشوقاً لقتل الفيل ومواجهته والتخلص من شروره، لكن ما إن حانت ساعة ملاقاة الملك حتى شمّع معظم المثقفين والفنانين السوريين الخيط من بلادهم، مرةً تحت ذريعة الخوف من بطش السلطة وجبروتها، ومرةً تحت ذرائع شخصية واهية، كالعلاج في الخارج، وتلقي جرعات من أجل مرض سرطان مفاجئ! وأخرى بحجة الخوف على مستقبل أبنائهم، بعد رفع العتب عنهم بمشاركتهم في اعتصام هنا وتظاهرة هناك لنيل شرف العضوية العاملة في «الثورة»، فيما كان الشارع ينحرف بقوة نحو فخ السلاح، والاستعانة بالغيب وقنوات التحريض المذهبي والديني، لتكون المؤامرة هذه المرة على جمهور الثورة وبين النخب ذاتها، مؤامرة دائمة هادئة بين نخب متصارعة على السلطة بحجة مظلوميتها التاريخية، مؤامرةً على الناس الذين تم التغرير بهم لا على طريقة النظام، بل على طريقة بيانات الفايسبوك، وعنتريات الثقافة و«الإستربتيز» السياسي في مؤتمرات دولية «لنصرة الشعب السوري»، جميعها لم تجدِ نفعاً ولم تقف في وجه قذائف الموت ورصاص القتل اليومي، ليجد الجمهور نفسه أعزل في عراء تام التكوين، فلا النخب قالت له ما هي الخطوة الثانية من «خطة» الثورة، ولا هو عرف كيف يدير معركته المصيرية لنيل الحرية وتحقيق العدالة والكرامة له ولأبنائه، فالنخب الهاربة والمنكفئة والميئَسة تاريخياً لم تعد حتى في وارد نصح جمهورها الذي انشق عنها، بعد أن تُرك مع أطفاله وشيوخه ونسائه على صليب الثورة العالي، وليزداد شقاء هذا الجمهور بتسلل قوى إسلامية تكفيرية غامضة إلى بيوته وأحيائه المهدّمة؛ ففي ظل حصارٍ خانق له جاء الجلادون الجدد من غامض علم الثورة، لينشئوا محاكمهم الشرعية وحفلات قطع الرؤوس، وسَوق الأطفال إلى معسكرات الجهاد وإعادة النساء السوريات إلى حرملك الطاعة وعورات الضلع القاصر؛ فيما كان معظم المثقفين يواظبون على تقاذف الاتهامات تلفزيونياً؛ وفي خلفية الشاشات التي يظهرون عبرها مناظر خلابة لبرج إيفل وقصر بيكنغهام والبيت الأبيض؛ بينما استمر تدفق الدم من فم الجمهور المدمّى على الحلبة؛ الجمهور الغائب عن الوعي تحت نير التجويع والتشريد والتهجير والإبادات العرقية والطائفية، فقد مدنه وأرزاقه وأحلامه دفعةً واحدة؛ عدا عن شتى صنوف التعذيب النفسي والجسدي التي يتعرض لها يومياً من أجهزة إعلام هذا الطرف أو ذاك.
عصابات سرية
لقد كفَّ المثقف عن كونه عنصراً فاعلاً في المجتمعات العربية إلا على نطاق ضيق وبطريقة أقرب للعصابات السرية – يقول الشاعر السوري محمد دريوس: «منذ أن قبضت الطُغم – أي التحالف العسكري مع الشيخ والتاجر على (زمّارة رقبة) المجتمعات؛ انحدر المثقف بسرعة من خطاب نقدي يواجه هذا التحالف عاريًا ـ كما يقال ـ إلا من وعيه وحسّه النقدي, إلى لاهث خلف عطايا هذه السُلطة أو أقلّه, إلى نوع من المثقف الشعبوي؛ فهذه الأنظمة التي استقرّت بطرق متعددة على الحكم, إلا الطريق الانتخابي, كانت ذكية في رمي الطعوم, مستندةً في ذلك على إرث من الممارسات العملية المصنّعة في دول المنظومة الاشتراكية السابقة, فأصبحت والحال كذلك تنتج مثقفيها «الخاصّين» بها كما أعواد الثقاب, بعدما تخلّصت من الآباء المؤسسين للفكر القومي الاشتراكي الذين كانوا يساندون الديكتاتورية إيماناً واقتناعاً كما في عهد عبد الناصر وبعض من عهد حافظ الأسد وصدام حسين, لكن السنين اللاحقة جذرت القطيعة مع المثقف/الناقد وحلّ بدلا منه المثقّف/الموظف, أما الأنظمة الخليجية فاكتفت بشرائهم».
هذا التحول الحاصل في وظيفة المثقف قد يعود, إلى انتقاله في السنين اللاحقة وربما بتأثير مقولة انتهاء التاريخ, من نقد النظام ورجالاته إلى نقد المجتمع, من نقد التسلط وهيمنة الحزب, الأب القائد, الرمز, إلى نقد الظواهر المجتمعية ـ يتابع الشاعر دريوس معلقاً: «لقد تحول المثقف من مناضل إلى واعظ! كأنه يحنّ إلى دوره الأولي كرجل دين, فتلبْرَلَ اليساريون وصرنا نشاهدهم ضيوفا على البرامج الترفيهية؛ بل صاروا جزءا من الترفيه نفسه .ثم جاء الحراك الجماهيري وظهرت الحاجة ليُعاد تعريف المثقف؛ لا من حيث تحصيله العلمي أو اهتمامه بالشأن العام أو مقدار وعيه السياسي, بل من حيث ربطه بشكل وثيق بين العمل الذهني والفكري والأخلاق بمفهومها البسيط (رفض الظلم وإرساء العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانيتين) والتساوي أمام القوانين, أي الارتباط بين العقل والعاطفة».
إذاً ظهرت الحاجة إلى هذا المثقف نتيجة الاستقطاب الحاد في المجتمع السوري والانقسام الحاصل بين سلطة النظام الحالي بقادته وأجهزته وموظفيه والسلطة الأخرى الهامشية التي هي لا سلطة, نتيجة فقدان «الكيمياء الاجتماعية» ورفض دور الدولة الراعية وحلول النماذج الأولى للحكم, العائلة والعشيرة, فما نشاهده في سورية الآن هو نكوص باتجاه المفاهيم الأولية السابقة لوجود الدولة, أعيد الاعتبار لرجل الدين بعدما همّشه تحالف العسكر وسرق طبوله المثقف, كان رجل الدين مثقفاً فأصبح المثقف متدينا!.
على مفترق دولتين
لكن لماذا يقوم صاحب مقهى «مثقفين» في دمشق القديمة قبل الأحداث الراهنة باستضافة سجين سياسي سابق مجاناً؛ فيُجلسه في صدر المقهى لعشيّات عديدة؟، كل ما سبق كان من مكاسب انتمائه إلى (دولة) المعارضة. نعم، فالمعارضة دولة موجودة بالقوة، أي إنها مشروع مؤجّل قد يقصر أو يطول أوان تحقّقه، فدولة الظل هذه ليست عديمة السلطة إذا أخذنا بالحسبان أن المعرفة سلطة، ليس كما الدولة الموجودة بالفعل، أي الدولة القائمة المحتفظة لمنتسبيها من المثقفين بمزايا مباشرة أشد حظوة تصحبها قيمة معنوية منخفضة بالضرورة».
العلاقة فيما قبل بين الدولتين كانت ثابتة واضحة الحدود والمعالم، مع هامش انزياح طفيف في المستوى العنفي – يتابع عباس: «لم يكن ذلك الهامش ليمنع كل مثقّف منهما بتدبّر أموره وتحديد موقفه بسهولة ويسر، على النقيض مما يحدث في السنوات الأخيرة فيما بات يُعرف بالثورات العربية، فالدولتان الآن على اقتتال وتذابح، والمثقّف من النوعين يعلم جيّداً أن الخطأ في الاختيار بينهما بات جسيماً ومروّعاً، ليس بسيطاً كما في الماضي؛ فسابقاً، كان المثقّف المُغامر يتأذى حيناً بأن يودع في سجن سياسي بعد تسليمه مفاتيح الخروج، أي (ورقة التوقيع) الشهيرة في أدبيات الاضطهاد السياسي المعاصر، وحيناً آخر كان يّضيّق عليه في العمل أو المعاملات، وفي أحيان قليلة كان معدّل الأذى يرتفع ليصل مثلاً الموت تحت التعذيب، أو الاضطهاد العنفي، ولكن في جميع الاحوال، كان سيّد قراره»!
(كاتب سوري)
السفير