سوريا: صناعة الحرب الأهلية
هوشنك بروكا
دخلت الثورة السورية شهرها التاسع، تاركةً وراءها، حسب إحصائيات لمنظمات حقوقية، أكثر من أربعة آلاف شهيدٍ، وأضعافهم من الجرحى والمعوّقين والمعتقلين والمعذَّبين.
فعلى الرغم مما تحقق على الأرض، من إجراءاتٍ وعقوباتٍ وتهديداتٍ، عربية وإقليمية ودولية، لإسقاط النظام السوري في المزيد من العزلة، وإجباره بالتالي، على العدول عن ركوبه الحل الأمني العسكري، لتصفية الثورة السورية، أو التنحي وتسليم السلطة بشكل سلمي إلى الشعب، رغم كلّ هذه التطورات المتلاحقة، التي حدثت، وأخرى أكثر لا تزال في الطريق ستحدث، إلا أنّ ذلك لا يعني بأنّ النظام قد بات ضعيفاً، أو مفككاً، أو فقد عناصر قوته، كما قد يصوّره البعض، أو يتمناه.
باستثناء الإنشقاقات المتفرقة التي حدثت في صفوف “الجيش العربي السوري”، والتي أدت إلى ولادة ما يسمى ب”الجيش السوري الحرّ”، لم يشهد نظام الأسد، حتى الآن، أيّ انشقاقات تّذكر في صفوفه. وهذا إن دلّ على شيء، فهو يدلّ على أن النظام السوري، ذات التركيبة الطائفية “المختارة” بعنايةٍ فائقة، لا يزال قوياً، يملك الكثير من الأوراق، وقادراً على صناعة المزيد من الخراب، والمزيد من القتل، فضلاً عن قدرته على زراعة المزيد من الفتن والنعرات القومية والطائفية والمذهبية، في صفوف الشعب، لضربه ببعضه البعض، و”إسقاطه” في حربٍ أهلية غير محسوبة النتائج.
النظام السوري، وعلى رأسه رئيسه بشار الأسد، يعلم أنّ “الجرّة لن تسلم هذه المرّة”، هذا الأمر بات حقيقة شبه مؤكدة، ومعروفة للداخل والخارج. ولكن المؤكد أيضاً، هو أنّ “لاسلام” جرّة الأسد، يعني في منطق النظام، “الحرب” على جرار الآخرين من “عملاء ومندسين ومتآمرين”، أو “حرق”(ها)، وحرق كلّ العالمين من حولها، كما تقول كلّ تصريحات الأسد وتهديداته، من أولها إلى آخرها، وذلك عملاً بمقولة: “علي وعلى أعدائي”.
تشكيلة النظام التي أراد لها رئيسه، أن تكون “طائفية”، وعائليةً بإمتياز، منذ الأول من مجيئه إلى السلطة، بداية سبعينيات القرن الماضي، أدت إلى ظهور ما يمكن تسميته بنوعٍ من “الإستقطاب الطائفي” في عموم المجتمع السوري. فعلى الرغم من براءة الكثيرين من الطائفة العلوية، مما اقترفه النظام بحق السوريين، بمختلف طوائفهم وشرائحهم ومكوناتهم، إلا أنّ هذا لا يعني بأن النظام السوري براءٌ من الطائفية.
فهو ركب السياسة، منذ البداية، “طائفياً”، مستغلاً بذلك “المظلومية العلوية”، بإعتبارها أقلية من الأقليات السورية، التي تترواح نسبتها، بحسب إحصائية للسي إن إن(2007)، بين 8 و 9% من مجموع السكان. هذا الإستغلال السياسي للطائفة العلوية في السلطة، من جهة النظام السوري، لعقود طويلة، أدى مع مرور الزمن “الطائفي” الصعب، إلى خلق المزيد الإحتقانات والإصطفافات الطائفية، التي لم تخلُ منها المجتمعات الشرقية، ذات التنوع الإثني والعرقي والطائفي، يوماً، على امتداد تاريخ المنطقة، وهو الأمر الذي شجّع ظهور وصعود ما يمكن تسميتها ب”الطائفية المضادة”، على الضفة الأخرى من سوريا، وأعني “الطائفية السنية” ضد “الطائفية العلوية”.
حالة الإحتقان الطائفي لدى العرب السنة في ظل النظام السوري (أقول العرب السنة، لأن الأكراد السنة في سوريا، ينظرون إلى أنفسهم، كأقلية قومية أكثر من كونهم أكثريةً سنية) تشبه إلى حدٍّ كبير حالة شيعة “عراق صدام حسين”.
وربما من هذه الزاوية تحديداً، يمكن لنا فهم موقف “العراق الشيعي”، غير المحايد، وغير البريء بالطبع، مما يحصل في سوريا.
هذا الموقف “الشيعي”، في أسه وأساسه، هو ليس ردّاً لما يسميه البعض العراقي(الشيعي غالباً) ب”الجميل العربي” لما قدّمه النظام السوري للمعارضة العراقية، زمان هروبها من أتون “جمهورية الخوف” الصدّامية، بقدر ما أنه ردّ للجميل الطائفي “الممتاز”. فما تعيشه سوريا من احتقانات طائفية، أو صراعات بين الطائفة والطائفة المضادة، لا ولن تكون بمنأىً عما جرى ولا يزال يجري في العراق من صراع ديني/ طائفي على السلطة منذ التاسع من نيسان 2003.
ومن هنا تحديداً يمكن فهم دلالات “التحفظ”، لا بل “الخوف” الشيعي العراقي، مما يحدث في سوريا. فسقوط النظام السوري(العائلي ذي التركيبة أو البنية العلوية) هناك، سيعني عملياً صعوداً للسنة، الذي سيؤدي في المنتهى إلى صعودٍ موازٍ لسنة العراق، مقابل هبوط شعيته. ثم لا ننسى أنّ “العراق الشيعي” بات يشكل بحكم “ديمقراطية الأغلبية” جزءاً لا يتجزأ مما اصطلح عليه ملك الأردن عبدالله الثاني، في مقابلةٍ له مع الواشنطن بوست(2004)، ب”الهلال الشيعي”، الممتد من إيران إلى لبنان، مروراً بالعراق وسوريا.
مع ازدياد الضغط العربي والتركي والدولي على النظام السوري، بدأنا نسمع في الأيام الأخيرة عن “عمليات نوعية” تبنّاها الجيش السوري الحرّ، المنشق عن صفوف جيش النظام. علماً أنه توّعد بتنفيذ المزيد منها، في المستقبل، بحسب تصريحات قائده العقيد رياض موسى الأسعد، الموجود حالياً في تركيا.
ماذا يمكن أن يعني ذلك؟
المعنى ههنا، ليس في قلب الشاعر بالطبع، وإنما هو في قلب سوريا، التي دخلت مرحلة جديدة و”نوعية” من الصراع، بين أهل النظام وأهل الثورة. هذا الدخول الجديد في “صراعٍ نوعيٍّ” بين الطرفين، يعني في السياسة على الأرض، انزلاقٌ السوريين إلى حربٍ أهلية، سيدفع فيها الطرفان، الكثير من سوريا، والكثير من الثقة بين طوائفها، ناهيك عن فقدان الكثير من السلم والأمن الأهليين.
الظاهر هو أن الخوف من الحرب الأهلية في سوريا ما عاد “شبحاً”، وأنما بات قاب قوسين أو أدنى من حقيقةٍ وشيكة.
هذا الخوف الحقيقي من دخول سوريا والسوريين في حربٍ أهلية، هو الذي دفع بالكثيرين، دولاً ومنظمات وشخصيات، إلى التحذير من الوقوع في “فخاخ” حربٍ كهذه، خاسرة لكلّ الأطراف.
في مقابلةٍ له مع البي بي سي، لم يخفِ رئيس المجلس الوطني السوري، د. برهان غليون، قلقه من “الإنزلاق إلى الحرب الأهلية” والوقوع بالتالي، في فخٍ نصبه النظام لأهل الثورة.
أما الأمر الخطير واللافت للنظر، كما أشرنا في مناسبات أخرى، وأكثر من مرّة، فهو تشكيلة “الجيش السوري الحرّ” التي تُقاد(كما يبدو من خطاب مؤسسيه وقادته الميدانيين، وتسميات كتائبه ذات النكهة الدينية/ الطائفية الخالصة) بعقلية دينية ضيقة(سنية حصراً)، أكثر من أن تُقاد بعقلية وطنية سورية منفتحة.
هذا الصراع “النوعي” الذي هو في الظاهر، أو من المفترَض به أن يكون بين “جيشين”(جيش النظام وجيش الشعب)، إلا أنه في الباطن أو تفاصيله، يبدو لكأنه صراعٌ بين طائفتين مختبئتين أو مصطفتين وراءهما.
انجرارٌ كهذا إلى “التماهي” أو “السقوط” في الطائفة، بدلاً من الصعود بالوطن، بكلّ طوائفه وقومياته وإثنياته، هو سابقة خطيرة، لن تفلت منها سوريا، على ما يبدو، بأقل من الحرب الأهلية، التي ستكون حرباً مكلفة جداً، دماً وعرضاً ومالاً، على كلّ سوريا وكلّ السوريين.
خطاب المعارضات السورية، بمختلف أطيافها وتياراتها، هو في المجمل خطابٌ “مُطَمئن” في ظاهره العام، لكن تفاصيله على مستوى بعضه(لا سيما الخطاب الإخواني الذي يشكل أساس خطاب المجلس الوطني السوري) مقلقة. هذا الخطاب الداخل مع حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم، في تحالفٍ غير بريء، وعلى أكثر من مستوى، لا يزال خطاباً غير واضح المعالم، يعاني من الكثير من اللاوضوح والضبابية، واللعب على السياسة وضدها، كما هو حال كلّ جماعات الإخوان المسلمين، ابتداءً من مصر وليس انتهاءً بسوريا.
تصريح المراقب العام للإخوان المسلمين السوريين، محمد رياض الشقفة الأخير، والذي رحّب فيه ب”التدخل التركي” في سوريا، ل”حماية المدنيين” دون سواها من الدول، “بدلاً من التدخل الغربي”، حسب توصيفه، هو إشارة صريحة أخرى على أنّ “أخوان سوريا” و”أخوان تركيا”، سيكونون لبعضهم البعض ناصرين، ظالمين أو مظلومين، شاء من شاء وأبى من أبى.
دخول “الجيش السوري الحرّ” على الخط الطائفي(السني) مع الإخوان المسلمين، لمواجهة جيش الأسد “العلوي”، لن يحمي المتظاهرين المدنيين، كما تقول رسالته، وإنما سيزيد من طين سوريا بلّةً، وسيدخلها في المزيد من العنف الدموي والعنف الدموي المضاد. ناهيك عن أنّ صراعاً طائفياً كهذا، سيدفع بالطوائف والمكونات الأخرى مثل المسيحيين في عموم سوريا، والدروز في الجنوب، والأكراد في الشمال، إلى المزيد من الخوف على القادم من مصيرها، والمزيد من “الحيادية السلبية”(كما هو حاصل)، للنأي بنفسها عما يجري في سوريا، طالما أنّ القضية ستنتهي بهم، على حدّ خوفها، إلى “مولود طائفي”، ستخرج منه بدون حمص.
إذا كانت عقيدة “الجيش العربي السوري” طائفيةً بإمتياز، بإعتباره حامياً لديار آل الأسد، وما حواليه من “بعض طائفة”، فإنّ عقيدة “الجيش السوري الحرّ”، هي الآخرى، لا تبدو أقلّ طائفيةً من عقيدة جيش الأسد.
لا شك أنّ “الجيش السوري الحرّ” هو جزء لا يتجزأ من الحراك العام للثورة السورية، كما يقول لسان حال بعض المعارضات السورية، لكنّ المؤكد أيضاً هو أنّ هذا الجيش لا يوحي، حتى الآن، بأنه “الجيش البديل” عن “الجيش العربي السوري”، الذي من المفترض به أن يكون جيشاً لكل سوريا، ولكل السوريين، لأن الطائفة فيه غالبةٌ على سوريا، والدين فيه حاكمٌ على السياسة.
نحن في سوريا، على الأرجح، أمام قيام “عراق جديد”، سنشهد فيه على ما يبدو، الكثير من الطائفة، مقابل القليل من الوطن، والكثير من الدين في السياسة، مقابل القليل من الفصل بينهما.
ايلاف