صفحات العالم

سوريا في مهب الريح


 أحمد يوسف أحمد

تلعب سوريا دوراً رئيساً في النظام العربي خاصة في مجال الصراع العربي- الإسرائيلي، وقد تمثل هذا الدور في العقود الأخيرة في دعم المقاومة اللبنانية ماديّاً ومعنويّاً، واحتضان فصائل المقاومة الفلسطينية الرافضة نهج أوسلو، ورفض التسويات غير المتوازنة للصراع. ولكن سوريا من ناحية أخرى تخضع منذ أكثر من أربعين عاماً لنظام الأسد الأب فالابن وفقاً لصيغة تجاوزها الواقع السياسي منذ أحدث جورباتشوف زلزاله في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، الأمر الذي أدى إلى اختفاء الاتحاد السوفييتي من خريطة العالم في 1991، وسقوط نظم أوروبا الشرقية التابعة له واحداً تلو الآخر، واتباع الجميع: روسيا الوريث الأساسي للاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية نهجاً رأسماليّاً في الداخل، والوفاق مع السياسة الخارجية الأميركية إن لم يكن التبعية لها ولو إلى حين.

ولكن الوطن العربي بدا صامداً في مواجهة تلك الموجة الهائلة من التغيير، غير أنه اعتباراً من ديسمبر 2010 بدأت موجة أصيلة للتغيير من داخل النظام العربي نفسه. صحيح أن البعض نسبها لفعل قوى خارجية، ولكن حتى لو كان هذا التحليل صحيحاً فإن هذه الموجة لم تكن لتحدث لولا وجود عوامل داخلية قوية تعززها. بدأ التغيير في تونس فمصر، وحقق هدفه الرئيس (الإطاحة برأس النظام) بسرعة لافتة، ثم انتقل إلى ليبيا التي استخدم حاكمها “السابق” عنفاً مفرطاً في مواجهة الثائرين، وكذلك إلى سوريا التي لم يخرج نظامها في مواجهة موجة التغيير عن الاستخدام المفرط للقوة، وكذلك اشتركت اليمن معهما في ذلك، وكانت تشهد إرهاصات الثورة قبل هذا كله، وإن كانت موجة التغيير الراهنة -وبالذات بعد نجاحها في مصر- قد أعطت زخماً للقوة المطالبة في اليمن برحيل رئيس الجمهورية ونخبته الحاكمة.

وفي سوريا كان الرئيس الحالي بشار الأسد قد وعد عند ولايته الحكم عقب وفاة أبيه في 2000 بإصلاح للمسار في اتجاه ديمقراطي، وبدا إلى حين وكأن سوريا تدخل في “ربيع مبكر”، ولكن الرؤية كانت واضحة لدى بشار منذ البداية، وهي أن الأولوية للاستقرار، ومن هنا أجهضت علامات ذلك الربيع المبكر، ثم تكفل أصحاب المصالح والحرس القديم بنسج خيوطهم العنكبوتية حول القيادة الجديدة إلى أن وصل الحال في سوريا إلى ما كان عليه عشية انفجار الحركات المطالبة بالتغيير. وقد تبنت القيادة السورية كغيرها من القيادات العربية التي تعرضت لمواقف مماثلة نظرية التآمر الخارجي، وهو تآمر يستعين وفقاً للقيادة السورية بعناصر تخريبية وإرهابية في الداخل تثير الفتن وتهاجم قوى الأمن والجيش، ومن هنا فإن تلك القوى لا تتحرك إلا تلبية لاستغاثة المواطنين في المدن والقرى التي يظهر فيها هؤلاء الإرهابيون، ومطالبتهم بتدخل قوى الأمن والجيش لحمايتهم.

ولكن دائرة “التخريب” و”الإرهاب” اتسعت، وأصبح من الصعوبة بمكان أن تكون كل هذه القطاعات المطالبة بالتغيير من المخربين والإرهابيين، وحتى لو كان هذا التفسير صحيحاً فأي فشل لنظام حكم أكثر من أن تتولد عن تفاعلاته كل هذه القوى من الإرهابيين والمخربين؟ وأي فشل أيضاً أكثر من ألا يكون نظام الحكم قادراً على مواجهة هذه الظاهرة بنجاح؟ بل إن من الواضح أن القيادة السورية تشعر في قرارة نفسها بأن نظريتها مجافية للواقع وإلا لما أكثرت من الحديث عن إصلاح، وإن كان واضحاً أنه إصلاح لا يمس جوهر النظام ومعادلاته الأساسية بطبيعة الحال، ناهيك عن البطء الشديد في اتخاذ الخطوات التي يمكن أن تفضي إلى هذا الإصلاح. وهكذا استمرت الأولوية في مواجهة حركات التغيير في الاعتماد بشكل رئيس على قوى الجيش والأمن. بل إن اللافت للنظر، وبعد شهور من تفجر حركات التغيير، أن ثمة إصراراً على استخدام القوة المفرطة، وهو ما يعني أن قدرة النظام على “التعلم” تكاد تساوي الصفر، وهي للأمانة صفة لا ينفرد بها النظام السوري، وإنما تشاركه فيها كل النظم التي تعرضت لما يتعرض له الآن. ففي مصر قيل من قبل كبار المسؤولين في أعقاب انتصار الثورة التونسية إن مصر ليست تونس، وهي ليست تونس بالفعل، ولكن عوامل التغيير فيهما واحدة، وهكذا نجحت الثورة في الإطاحة برأس النظام. وفي ليبيا تكرر الأمر نفسه ليهيم القذافي على وجهه بعد شهور من المواجهة العقيمة والإيمان بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. والآن تشهد سوريا الإصرار نفسه بما يمثل مؤشراً واضحاً للمستقبل.

وقد تميزت سوريا عن الحالات الأخرى التي طال فيها أمد المطالبة بالتغيير بالحد الأدنى من التدخل الخارجي، ففي الحالة الليبية على سبيل المثال اتخذت الجامعة العربية منذ البداية قراراً بتجميد عضوية ليبيا في الجامعة ومنظماتها، وأصدرت قراراً يقر التدخل الدولي لحماية الثوار بعد أن بدأ القذافي في استخدام الأسلحة الثقيلة ضدهم، والأخطر أنها طالبت مجلس الأمن بتنفيذ هذا القرار على النحو الذي انتهى بدور لـ”الناتو” في الثورة الليبية لابد أن تكون له تداعيات سياسية على مستقبل هذا البلد، وفي اليمن تبنت دول مجلس التعاون الخليجي دبلوماسية نشطة تمثلت في مبادرة تحاول أن تجد مخرجاً من أزمة اليمن المستعصية، بالإضافة إلى أن السفير الأميركي كان حاضراً في كل خطوة من خطى البحث عن حلول.

أما في سوريا فلم تتخذ الجامعة العربية أي قرار بشأن ما يجري فيها، وحتى عندما قام أمينها العام بزيارته الأولى لسوريا كان واضحاً أن الرئيس السوري قد أقنعه بأنه ماضٍ في طريق الإصلاح، ثم تعاملت سوريا مع الزيارة الثانية -التي يفترض أن الأمين العام قد حمل معه فيها مبادرة من وزراء الخارجية العرب أقرب إلى مطالب الثوار منها إلى موقف النظام- باعتبار أن اليد العليا لها، فهي التي تحدد موعد الزيارة ثم تؤجله، وهي التي تكتفي بالاستماع دون أن يصدر عنها أي موقف يشير إلى القبول باتخاذ خطوات إصلاحية. وحتى الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة اكتفت بمواقف إدانة لفظية مهذبة لما يجري، وفرض عقوبات غير مؤثرة. بل إن النظام السوري ما زال يحظي بتأييد غير متحفظ من قطاعات من الرأي العام العربي ترى أن سوريا هي حجر الأساس في المواجهة مع إسرائيل، والقاعدة التي يستند إليها المقاومون، ووفقاً لرأي واحد من هؤلاء فإنه ليس لديهم خيار سوى تأييد النظام السوري. وربما تكون هذه الظاهرة في أوضح حالاتها في لبنان حيث تعتمد أمور كثيرة على السياسة السورية، وستكون لتغيير هذه السياسة تداعيات خطيرة على الداخل اللبناني، وبالذات قوى المقاومة فيه.

ولكن الأمور بدأت تتغير تدريجاً، فتركيا صاحبة العلاقات الوثيقة مع سوريا وصلت إلى حد القطيعة معها، والنظام الجديد في مصر فتح الباب على مصراعيه للآراء المهاجمة بضراوة للنظام السوري وسياساته، ومعظم دول مجلس التعاون الخليجي أعلنت رفضها لسلوك هذا النظام، وبعضها قام بسحب سفرائه من سوريا. وهكذا يقف النظام السوري الآن في مركز رياح قوية بين المطالبين بالتغيير ومناخ خارجي يكاد يجمع على إدانة هذا النظام. فهل يستطيع النظام السوري أن يكسر هذه الحلقة المفرغة برؤية أفضل للواقع والمستقبل، وخطوات إصلاحية حقيقية؟ أم أن استنزاف قوى الشعب السوري وموارده سيستمر إلى حين حتى تتجسد إرادة التغيير في الواقع السياسي السوري؟

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى