سوريا قضية نفسها وقضية الجميع
جابر حبيب جابر
يبدو النظام السوري الوحيد المتبقي من حقبة القومية العربية الكلاسيكية ذات الطابع الشمولي. وعلى الرغم من صراعهما التاريخي الطويل، فإن دولة «البعث» في سوريا تشبه في العديد من ملامحها دولة «البعث» السابقة في العراق: فهما نظامان تمخضت عنهما الحقبة القومية الثورية وشعاراتها الكبيرة في محاربة الإمبريالية والاستغلال والتجزئة، وكلاهما تحول إلى نموذج للدولة الكلانية المستندة الى فكرة الحزب القائد وغير المتسامحة مع التعددية السياسية، وكلاهما تحول في مرحلة لاحقة إلى نظام يقوم على هيمنة عائلة واحدة وتم إفراغ الحزب العقائدي مما تبقى من قيمته السياسية وتحول إلى مجرد جهاز قمعي وواجهة آيديولوجية متهرئة. الأهم من ذلك أنه لا يوجد بلدان في المنطقة لا يتشابهان في تضاريسهما الاجتماعية كسوريا والعراق، ولا توجد عاصمتان في الشرق لعبتا دورا تاريخيا كدمشق وبغداد. إن من مساوئ الزمن الراهن حيث الطائفية تتفشى وتصبح دليلا للمواقف الرسمية والشعبية، أن الشعبين العراقي والسوري المتجاورين جغرافياً آخذان في الانقطاع عن بعضهما بعضا بحدود الطائفية التي أنجبها نظاما «البعث» في البلدين حينما تسببا في تمزيق النسيج الاجتماعي وسمحا بسيطرة سياسات الاستئثار والمحسوبية وهدر كرامة الأغلبية عبر محاولة السيطرة عليها بأجهزة أمنية لا مثيل لها في قسوتها وانعدام أخلاقها وقدرتها على سحق كرامة الإنسان حتى قبل أن تمارس التعذيب الجسدي ضده.
العراقيون الذين خبروا نظام صدام يعرفون جيدا معنى أن يعيش أي شعب تحت رحمة النظام الشمولي وأجهزته الأمنية، وفي الوقت ذاته يسمعون يوميا من الإذاعات الرسمية شعارات عن الحرية والعدالة والمقاومة والصمود. وكما أن غالبية العراقيين يشعرون بالضيق حينما يقوم البعض بإعطائهم النصائح حول نظامهم السياسي، لا سيما إن كانت تلك النصائح صادرة عن أناس ليسوا من خلفية تسمح لهم بإعطائها ولا يعرف عنهم أي ماض نضالي في بلدانهم، فإن السوريين يشعرون بالتأكيد بمرارة كبيرة من أولئك الذين يحاولون التنظير حول معاناتهم التي تتزايد كل يوم، أو يخبرونهم عما يجب أن تكون عليه أولوياتهم، سواء من معسكر الواقفين مع النظام أو الواقفين مع الحراك الشعبي.
بالنتيجة فإن صراعات أي شعب ومكابداته ومعاناته ومأساته هي التي ستصنع ذاكرته، لا يوجد شعب بذاكرة جاهزة، ولا يوجد شعب يتعلم من دروس غيره، الشعوب تعيش أزماتها الخاصة وتدفع أثمانا باهظة لتشكل تلك الذاكرة، وأحيانا تصبح الذاكرة مصدرا للانقسام والتفكك لأن الشعوب لا تجمع على موقف واحد منها. ولذلك فإن ما تشهده سوريا من صراع اليوم وعلى الرغم من الثمن الإنساني الهائل المدفوع لا سيما نتيجة القمع السلطوي، فإن نتيجة هذا الصراع هي التي ستقرر ما إذا كانت سوريا ستخرج منه بذاكرة واحدة أم بذاكرات متعددة، وما إذا كانت مخاضاته ستصنع مصيرا جديدا أفضل أم أنها ستؤول بالأمور إلى منزلق أكثر دموية وخطورة.
لكن إذا كان نضال السوريين هو قضيتهم التي لا حق لأحد أن يعطيهم دروسا حولها، فإن تأثير ما يحدث في سوريا على عموم المنطقة هو قضية الجميع. كانت سوريا منذ تشكيلها كدولة حديثة بمثابة الميزان الجيوسياسي في المشرق العربي المعروف بأنه منطقة تعدد ديني ومذهبي وحتى إثني. بلد يجاور لبنان والعراق وتركيا وإسرائيل، ولديه تقاطعات قومية أو دينية أو مذهبية أو ثقافية أو اقتصادية مع جميع بلدان الجوار، لا يمكن إلا أن يكون بثقل خاص يجعل مصيره مرتبطا بمصير محيطه، بقدر ما يبدو محيطه متأثرا بمصيره. النظام السوري أدرك ذلك منذ زمن طويل، وعرف أن قوته السياسية ومشروعيته الاجتماعية قابلتان للتحقق عبر الدور الذي يلعبه في منظومة العلاقات والتوازنات الخارجية، وهو بذلك يشبه نظام «البعث» في العراق أيضا، غير أن بعث العراق في ظل صدام ارتكب حماقات استراتيجية خارجية كبيرة، بينما نجح نظيره السوري في تحويل سياسته الخارجية إلى رأسمال مربح.
لكن بقدر ما تربح النظام وبنى شرعيته على الدور الخارجي، بقدر ما سيواجه الخسارة على صعيدين؛ الأول داخلي، حيث لا يمكن لأي دولة طبيعية أن تختزل قيمتها ومعنى وجودها في الدور الخارجي الذي تلعبه لأنه يقودها إلى مزيد من الانسلاخ عن المجتمع وإلى تكريس حالة من الانقطاع بين طلبات الداخل واحتياجاته وبين هموم النخبة السياسية وتطلعاتها، وبالنتيجة فإن سخط الداخل لا بد أن يتحول تدريجيا إلى هذا الدور الخارجي، إلى كراهية لكل ما ارتبط بهذا الدور من شعارات ومواقف وتوجهات. الصعيد الثاني خارجي، فالنظام الذي ينظر إلى نفسه كلاعب إقليمي وحسب، سيصبح كذلك في نظر الأطراف الإقليمية الأخرى التي ستتجه إلى التعامل معه أو معاداته بحسب وضعه في رقعة الصراع الإقليمي، وبالنتيجة فإنه سيكون خاسرا إذا كانت المعادلات الإقليمية والخارجية في لحظة توتر داخلي ليست مواتية له، وهو ما رأيناه في التحمس الخارجي غير المسبوق لمعاقبة النظام السوري دون غيره من أنظمة إقليمية مشابهة، فأبجدية الصراع الخارجي هي أبجدية مصلحية لا علاقة لها بالشعارات بقدر ما لها من علاقة بالمصالح.
لكن أقلمة وتدويل الوضع السوري يعني الإتيان بكم كبير من المصالح المتعددة إلى حلبة صراع داخلي أطلقت شرارته مطالب داخلية كانت تتطلع للحرية والكرامة والعدالة، وتعددية المصالح وربما تضاربها قاد إلى تعقيد الوضع أكثر لأنه في حالة بلد كسوريا لا يمكن لطرف أو مجموعة أطراف أن تنفرد وحدها بتقرير ما يجب فعله، مثل هذا الموقف لا بد أن يدفع آخرين لديهم مصلحة ويتأثرون بهذا الوضع لاتخاذ مواقفهم الخاصة.
وقد كان من الواضح مثلا أن تجاهل دول تتأثر كثيرا بالوضع السوري كالعراق ولبنان، وعدم محاولة التشاور معها في سبل نسج سياسة إقليمية موحدة، بل ومهاجمتها إذا اعترضت أو أرادت أن تتخذ موقفا مغايرا، يعني أن حركة الخارج تجاه الوضع السوري كانت هي الأخرى حركة تحكمها قواعد الصراع لا ضرورات الحل. أيا كان من يحكم العراق، سواء كان فيصل الأول أو صدام حسين أو نوري المالكي، لا يمكنه أن يقبل بموقف اللاعب الثانوي الذي عليه أن ينسجم مع هذا الطرف أو ذاك في الموضوع السوري، فكما أن كل من يتحرك باتجاه نصرة النظام أو الوقوف ضده له مصلحته الخاصة، فللعراق مصلحته المتمايزة عن هاتين المصلحتين، وهو تمايز يعكسه التقارب الجغرافي والتشابه التاريخي والتأثر التاريخي المتبادل بين بغداد ودمشق.
الشرق الأوسط