سوريا ليست دولة؟!
عادل الطريفي
لا أحد يريد أن يوصف بلده كدولة «فاشلة»، أو أن يتحول وطنه إلى ساحة معركة. الذين مرت بلدانهم بحروب أهلية قاسية يدركون معنى أن تكون منفيا أو غير معترف بك على الحدود. ما تمر به سوريا اليوم لا يمكن وصفه إلا بحرب أهلية، حيث جيش حزبي وقوات طائفية مسلحة في مواجهة أغلبية سلمية معارضة، ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن وأنت ترى مشهد المئات يتساقطون بسلاح القوات الموالية للنظام: هل يحدث هذا في دولة مدنية حديثة؟!
في حوار أجري مع محمد الهوني – المستشار السابق لسيف الإسلام القذافي – أشار فيه إلى أن الحالة الليبية كان مقدرا لها أن تتحول إلى حرب أهلية على خلاف الحالتين المصرية والتونسية التي انحاز فيهما الجيش لصالح المتظاهرين حماية للدولة من الانهيار، يقول الهوني: «ليبيا بلد بلا دستور، بلا جيش، بلا برلمان، بلا أحزاب. ليبيا بلد بلا رئيس ولا نائب رئيس. ليبيا ليست دولة» (مجلة «المجلة»، 19 يوليو/ تموز).
قد يبدو هذا وصفا قاسيا بحق ليبيا والليبيين، ولكن الحقيقة هي أن ليبيا ليست وحدها في ذلك، بل يمكن اعتبار كثير من الجمهوريات العربية بلدانا تحكمها أنظمة سلطوية من دون أن تكون دولا مدنية ذات سيادة وشرعية دستورية، إلا إذا كان معيارنا الدولة «الويستفالية» كتلك التي وجدت نهاية القرن الثامن عشر. أما الدولة بمعناها المدني الحديث، أي دولة المؤسسات ذات الشرعية الدستورية والقانون الوضعي العلماني، فهي ليست موجودة بين الجمهوريات العربية المعاصرة. تأمل فقط في الحالتين السورية، والعراقية زمن صدام حسين، فكلا البلدين لا يملك مؤسسات مدنية بالمعنى الحديث، بل عناوين وهمية لأجهزة هي امتداد للأحزاب الحاكمة، حتى مؤسسات مثل القضاء أو الجيش كانت تشكل بالكامل من داخل الأجهزة الحزبية. أما الدستور فلا يعدو أن يكون وثيقة مقرّة من طرف واحد ولا يحق لأحد تفسيرها إلا عن طريق المؤتمر القطري للحزب.
أمام حالات كهذه يصعب الحديث عن دول مدنية حديثة موجودة على أرض الواقع، بل كيانات قومية تحمل ملامح الدولة، وتقوم بأداء وظائفها، وتنوب عنها بالقوة في التمثيل الإقليمي والدولي، ولكن ليس أكثر من ذلك. طبعا، نحن نتحدث عن دول أعضاء كاملة السيادة في نظر القانون الدولي والمنظمات الدولية والإقليمية، ولكن معنى الدولة الذي نتحدث عنه هنا هو أكثر من مجرد الحدود والاعتراف الدبلوماسي بحسب القانوني الدولي. هنا يجب أن نفرق بين الدولة بوصفها كيانا سياسيا (Polity)، والدولة بوصفها قائمة على شرعية دستورية يسود فيها القانون المدني، أي دولة قانون (Rechtsstaat).
قد يبدو للقارئ أن التفريق بين المعنيين لا قيمة له في وقت تشتعل فيه المظاهرات ضد الأنظمة الجمهورية في المنطقة، ولكن هذا التفريق ضروري ومهم لأن المجتمعات العربية في تلك البلدان تعرف ما لا تريده؛ وهو حكم الحزب الواحد المستبد بقيادة الرئيس الأبدي، ولكنها لا تعرف ما هيئة أو تعريف الدولة التي تريد أن تحل محله. المتظاهر العربي الذي يصرخ بأعلى صوته «ارحل» هو بالفعل صادق في رفضه للنظام القائم، ولكن ليس هناك من اتفاق بينه وبين المتظاهر إلى جانبه – أو المواطن الآخر الذي لم يتظاهر – على شكل الحكم وآلياته، والنظام السياسي الذي يجب أن يحل محل النظام الراحل. لقد قيل مرارا بأن الغالبية تريد نظاما انتخابيا ديمقراطيا، ولكن في الحقيقة صندوق الانتخابات هو آلية توصيل – أو انتقال – محايدة، ولكنه ليس نظاما قائما بذاته. أما حكاية الديمقراطية فهي لا تتجاوز التصور السطحي لما يمكن تسميته الحكم «الجماهيري» – أو حكم الأغلبية – بالنسبة للأكثرية في المنطقة العربية. هناك بالطبع من لديه تصور كامل عما يريده من نظام سياسي، ولكن ما يعنينا هنا أنه ليس هناك إجماع في أي دولة عربية على طبيعة وشكل النظام الذي يجب أن يستبدل بالنظام الاستبدادي القائم في بعض الجمهوريات العربية.
هذا الحديث ليس ضربا من النقاش الفلسفي المترف، بل يمس في الصميم الوضع الراهن للانتفاضات في أكثر من بلد عربي. قد يقول البعض إن الأولوية ليست في تقديم نماذج لما يجب أن يكون عليه نظام الحكم، بل في إسقاط النظام الاستبدادي الذي يقتل شعبه أو يواجهه بقوة السلاح. بيد أن من الضروري القول إن انتفاضة سياسية بحجم ما يحدث كان يجب أن تمتلك الحد الأدنى من تصور البديل الواقعي الذي يمكن إحلاله في حال انهار النظام الاستبدادي. الكل يريد الديمقراطية، ولكن كل له تفسيره لما تقتضيه.
هناك من يجادل بأن الانتفاضات التي عمت الجمهوريات العربية قد جمعت ما بين تيارات فكرية ومشارب متناقضة، ووحدت بينها في المطالبة بالوقوف في وجه التوريث أو الديمومة في الحكم، ولكن السؤال الجوهري هنا: ماذا بعد أن يرحل النظام السابق سلميا أو باستخدام السلاح، هل من المضمون أن تتوصل هذه الكيانات السياسية إلى آلية واقعية – من الناحيتين السياسية والاقتصادية – نحو تحقيق نموذج الدولة المدنية الحديثة؟! نحن لا نعرف الإجابة بعد، وهي بالمناسبة مفتوحة على احتمالات كثيرة، بعضها جيد والآخر قبيح.
الدول العربية كيانات سياسية لم تتوصل بعد في أغلبها إلى نموذج الدولة المدنية الحديثة، والإقرار بهذا ليس عيبا، بل المشكلة في التعامي عن ذلك. خذ على سبيل المثال سوريا، فهي اليوم تشهد اضطرابا غير مسبوق في تاريخها المعاصر يوشك أن يتحول إلى حرب أهلية ذات بعد طائفي. هذا البلد الذي أنشئ زمن الاستعمار الأجنبي من ولايات عثمانية أصبح دولة دون مقدمات وبفضل المستعمر الذي أنشأ البنى التنظيمية وأسس لقيام دولة، ثم كان أن فكر البعض في سوريا بالوحدة مع المملكة الهاشمية في العراق، ثم بادر البعض الآخر إلى الوحدة مع مصر في الفترة الناصرية، وبعد ذلك كادت سوريا أن تتوحد مع العراق ثانية لولا خلافات حزب البعث في البلدين. خلال أربعين عاما حكمت سوريا بواسطة حزب عنصري مؤدلج ثم انتهى إلى أن يكون نظاما مقاوما في الظاهر، وعلويا في الخفاء. إذا تأملت في حال المعارضة المنقسمة والمتناقضة تبعا لولاءاتها الآيديولوجية والطائفية والقومية والعشائرية فستجد أنها كيانات سياسية لا يملك أهلها رؤية وطنية موحدة وواضحة لما يجب أن يكون عليه نظام الحكم في الدولة.
هذا لا يعني التبرير لبقاء النظام الحالي، ولكن من الضروري الاعتراف بأن هناك خللا ونقصا في الوعي السياسي والقيمي والأخلاقي لدى غالبية أحزاب وأفراد المعارضة في عموم المنطقة. في العشرينات والثلاثينات كان البعض يجادل بأن أولوية مجتمعات المنطقة هي الاستقلال والتخلص من الاستعمار الأجنبي وبعد ذلك يتفرغ الشعب لبناء الدولة الحديثة، ولكن العرب فشلوا خلال المائة عام – إلا في ما ندر – في بناء دول مدنية حديثة. اليوم، يجادل المدافعون عن «الربيع العربي» بأن الأولوية هي في التخلص من الحاكم المستبد ورموز نظامه، ثم يلي ذلك – عاجلا أو آجلا – بناء الدولة المدنية الحديثة، ولكن هنا تكمن المعضلة، فالمتظاهرون في الميادين العربية قد يتمكنون من إسقاط الأنظمة القائمة ولكن ليس من الواضح كيف سيتحولون إلى بناء نظم أفضل دون أن تتغير الأفكار والنظم القيمية والأخلاقية والدينية في المجتمعات العربية.
تروي جوديث ميلر في كتابها «للرب تسعة وتسعون اسما» (1997) حديثا للراحل جمال الأتاسي – «أبي الاشتراكية السورية» كما سماه غسان الإمام – يلخص فيه الحالة السورية: «ما الذي بناه الأسد؟ بضعة فنادق وطرق، وتماثيل لشخصه في كل مكان. بالمعيار الإنساني لا شيء.. لا ديمقراطية، ولا حتى مؤسسات حكومية حقيقية. دولتنا لا أساس لها. لهذا أنا خائف.. حينما يموت (حافظ) لا أدري ما الذي سيجري لنا، فوضى؟ حرب أهلية؟ حكومة إسلامية مسلحة؟».
للأسف، تحققت بعض مخاوفك يا جمال.
الشرق الأوسط