صفحات العالم

سوريا: مآل الانتفاضة التي”فاتها الوقت ” دولياً


عبدالامير الركابي

لن يصل من يطالبون في سوريا بـ”الحماية الدولية” الى مايريدون. فالوضع الدولي تجاوز تماما مثل هذا النمط من  الاجراءات والتصرفات، التي قد تكون الحالة الليبية آخرها وختامها. والولايات المتحدة الاميركية، لم تعد هي نفسها التي شنت الحرب على افغانستان، وغزت العراق فاسقطت نظاميهما.

في الفصل الليبي لم تتمكن هذه حتى من الظهور بمظهر المشارك الفعلي في الهجوم على نظام العقيد. فتراجعت بعد اسبوع من حملة الاطلسي على ليبيا، لتجلس في المقعد الخلفي، دافعة بفرنسا ودول اوروبية، الى صدارة المشهد. وبعد ماحدث هناك، لم يعد لا الحلف الاطلسي ولا الولايات المتحدة، قادرين على  تنفيذ حملة تدخل في مكان مثل سوريا، وما عاد ممكنا تصور اي تصرف من هذا القبيل من دون توقع مستوى من التوتر الدولي، قد يصل الى حد المجابهة المسلحة او حافتها الخطرة.

تغير الواقع الدولي بسرعة مذهلة، فما كانت عليه التوازنات في بداية العام الماضي، لم يعد هو نفسه اليوم، والانتفاضات العربية بحد ذاتها، ساهمت بقوة في  تحفيز وبلورة توجهات جديدة، ان لم تكن قد عملت على  دفع مواقف المعسكر الروسي الصيني تحديدا. فجعلتها تنتقل خطوات نحو المجابهة مع الغرب، ومع الولايات المتحدة الاميركية بالذات. وفي مقابل خسارة ليبيا واحتمالات تضييق الطريق امام الصين ومصالحها المتنامية في القارة السمراء،  ونوايا الاجهاز على سوريا وايران، انتقلت الصين وروسيا نحو خط المجابهة التي تزداد احتداما، خاصة في مواضع الاحتكاك الاكثر سخونة، مثل ايران وافغانستان، بينما يتم التحضيرلنقطة مجابهة مباشرة صينية – اميركية، استوجبت من الولايات المتحدة تغييرا واضحا في استراتيجياتها العسكرية، فانتقلت اولوياتها على هذا الصعيد  نحو البحر الهادىء حيث يتنامي التهديد العسكري الصيني، منذرا بنزع  احادية السطوة العسكرية الاميركية.

وبينما تصور بعض الاوساط هذا التحول في الاهتمامات والاولويات، وكأنه مجرد خيار املته الرغبة. تقول الوقائع ان الدافع الى مثل هذه الخطوة ابعد بكثير عن ان يكون مجرد خيار مزاجي يتباه اوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، اكثر اعضاء الادارة الاميركية حماسة للخيار الجديد، والتي تعلن عنه تحت شعار “قرن اميركا الباسيفيكي”. والواضح ان الخيار الجديد قد بني على معلومات ومتابعة لنيات الصين ومخططاتها، والتي تتهيأ لفتح معركة هناك، تحت ذريعة الجزر المتنازع عليها مع كوريا واليابان والفيليبين، او في ميدان التطور التكنولوجي العسكري الصيني المقلق للغاية. ومعلوم ان التحول الاستراتيجي الاميركي الجديد،  قد بدأ التحضير له في وقت أسبق. فالقوات الاميركية بدأت الانتشار شمال اوستراليا، التي بادرت الى منح تلك القوات  قواعد تسهل مهمتها. غير ان الامر اصبح اليوم اكثر الحاحا،  بحيث تطلب  المباشرة في التنفيذ العملي، فالتوقعات الاميركية تقول بقرب احتمالات المجابهة  في المحيط الهادىء.

وتمتد نقاط وبؤر المشاغلة والتوتر، ما بين ايران التي لا تتوقف عن التصعيد المحسوب في ملفها النووي، مع تكرار اعلانها الاستعداد للمواجهة العسكرية مع الغرب، مرورا بأفغانستان، وفي وقت وشيك الصين، الامر الذي يجعل من وضع الولايات المتحدة والناتو مختلفا في الآونة الاخيرة كليا عما كان عليه في بداية العام المنصرم. وهذه اللوحة مرشحة في الغالب، لمزيد من الاشتعال، والى اختفاء حالة “اليد المطلقة” الاميركية، بالاخص على الجبهة السورية. ففي هذا الملف بالذات، لن تكون الحالة الليبية قابلة للتكرار مطلقا. والمتوقع ان يصبح الحضور الروسي الصيني على الاراضي السورية، امرا واقعا، كما هو الحضور الايراني الحالي،  وذلك بمجرد ان تلوح اية نيات تدخل عسكري غربي.

ليست هذه بالأنباء السارة على جبهة المنتفضين، او المعارضة السورية، بالاخص منها الجناح الذي يأمل بأن يؤدي اخذ الموضوع السوري الى الامم المتحدة ومجلس الامن، الى اية نتيجة. فالانتفاضة السورية هي انتفاضة “فوات الوقت” على المستوى الدولي، وما بين لحظة تدخل الناتو في ليبيا واليوم، انقلب الموقف كليا، بحيث اغلق الطريق امام وصول الانتفاضة الى هدفها المعلن.

ليست الولايات المتحدة وحلفاؤها الاوروبيون وفي المنطقة، مستعجلين لاظهار مدى الارتباك الذي اصبحوا يعانون منه. ولكن مجرى الاحداث وتطورها اصبح واضحا. والأرجح ان الاسابيع المقبلة  ستكشف عن المزيد من التراجعات والمرونة في الموقفين التركي والعربي قبل الاوروبي، اما على مستوى المعارضة السورية، والاهم على المستوى الشعبي المنتفض، فإن وقتا ربما اطول سيمر قبل ان  تتبدل الاقتناعات بشأن سقف التغيير المتاح والممكن فعلا،  ومن الطبيعي حسب الواقع المستجد ان تصبح  استراتيجية التيارات  المؤيدة لفكرة التفاوض مع النظام، والتي ترفض خيار التدخل الاجنبي، هي المقبولة  والمرجحة عمليا. وفي حين ان  التدخل الدولي المتعارف عليه، يعني عادة حضور الاميركيين والاوروبيين،  الا اننا قد نجد انفسنا من هنا فصاعدا، امام نمط تدخلي من صنف آخر، فتزايد الحضور والحماية الروسية – الصينية – الايرانية للنظام السوري، سيعطي هذه القوى حظوة متزايدة، داخل سوريا النظام والمعارضة السياسية والشعبية، مما يجعلها قادرة على المساهمة جديا في صوغ “الحل”، الذي يفترض ان يؤدي الى اصلاحات تغييرية جدية  في بنية النظام، من دون اسقاطه.

وليس من المستغرب ان يكون هذا السيناريو قد اصبح مقرا منذ الان، وانه صار واقعيا، ويدخل ضمن الاقتناع الاميركي نفسه، ومن يقرأ محضر الاجتماع الاخير بين ممثلي “المجلس الوطني السوري”،  وهيلاري كلينتون، لا يتردد للحظة في الاقتناع بان الولايات المتحدة قررت الانتقال الى “الديبلوماسية الرمادية” في الموضوع السوري. وبأن عودة السفير الاميركي الى دمشق، وتكليف المعارضة بجمع المعلومات عن الانتهاكات، والميل الى خيار المحكمة الدولية أملا في محاكمة المسؤولين السوريين عن الجرائم ضد الانسانية وانتهاكات حقوق الانسان، لا يدل اطلاقا على اي استعداد للتدخل، او لخوض مجابهة مع النظام السوري بهدف اسقاطه. و”المشوّش” ان هذه المواقف والتحولات لا تعلن بصراحة ولا في حينها، الامر الذي يزيد من فداحة الخسائر واعداد الشهداء في سوريا، بقدر ما يساهم ايضا في ارباك القوى التي اندفعت في اتجاهات معينة، متصورة انها على مشارف تغيير دراماتيكي وشيك، يشبه انماطا معينه من حالات التغيير بقوة دعم الخارج الاميركي تحديدا، او الاطلسي المدعوم اميركياً.

على العموم وفي جميع الاحوال، فإن نمط النظام السوري، وان انقذته عوامل طارئة غير محسوبة، لن يكون ما كان قبل الانتفاضة، مثلما ان العالم اليوم لم يعد عالم الامس، والتوازنات الدولية  والوضع الدولي اجمالا، لم يعد نفسه كما كان منذ 20 عاما حتى ما قبل اشهر.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى