صفحات العالم

سوريا مرة أخرى وأخيرة


عبدالله السويجي

تكتسب الأحداث التي تعصف بسوريا أهميتها، ليس من زاوية معارضة تهدف إلى الإطاحة بنظام حزب البعث الحاكم فحسب، وإنما من مجموعة تشابكات وتقاطعات إقليمية وقومية وعالمية . وذكر الحيثيات لا يعني المساندة أو المعارضة لما يحدث على الأراضي السورية، وإنما من قبيل ذكر الحقائق، فسوريا حتى الآن خارج إطار التسوية مع الكيان الصهيوني، وإن دخلت في مفاوضات سرية معه في السابق على أساس الانسحاب من الأراضي التي احتلها الكيان الصهيوني عام ،1967 أي قبل 45 عاما، وسوريا تربطها علاقة متميزة واستراتيجية إلى حد ما مع إيران، الأمر الذي يعني، وفق تحليلات إقليمية، أنها في المعسكر الطامح إلى بسط نفوذه في المنطقة، والطامع إلى صفة الدولة العظمى عن طريق حصوله على الطاقة النووية، وبناء ترسانة عسكرية متطورة ومهيمنة، وسوريا تربطها علاقات قوية ومتينة مع حزب الله اللبناني، المرتبط بدوره مع نظام الفقيه في إيران، والذي يشكل، كما يرى البعض، رأس حربة ضد الكيان الصهيوني، وورقة ضغط عسكرية وسياسية في أي مفاوضات أو مباحثات بشأن البرنامج النووي الإيراني، وسوريا لها حدود مترامية مع تركيا، أي مع الدولة التي تتناحر مع حزب العمال الكردي منذ سنوات طويلة، والدولة التي تتصارع حكومتها مع قيادات عسكرية حاولت القيام بانقلابات للإطاحة بنظام أردوغان الإسلامي وحزبه “العدالة والتنمية”، والدولة التي تتصارع فيها العلمانية والاتجاه الإسلامي بحدة تحت السطح، والدولة التي فشلت حتى الآن في الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، والدولة التي لديها مشكلة كبيرة مع قبرص بسبب تقسيم الجزيرة إلى قسمين، يوناني وتركي، وسوريا التي تربض بين نظامين، أحدهما ملكي يواجه تياراً إسلامياً تزداد شوكته يوماً بعد يوم في الأردن، والثاني جمهوري ممزق من الداخل، تنتابه أحزاب يدها على الزناد، وسوريا التي تحتضن آخر قاعدة لروسيا في الشرق الأوسط، وآخر قلاع الاتحاد السوفييتي “المأسوف على شبابه” بعد حرب باردة مع المعسكر الغربي استمرت لسنوات، وانتهت بفعل (بروسترويكا جورباتشوف)، وأخيراً سوريا التي تحتضن عرقيات وأديانا واتجاهات ليبرالية وشيوعية وقومية وإسلامية إضافة إلى الطوائف والمذاهب الأخرى، وجميعها الآن تحمل السلاح .

وبذلك، تكون سوريا مثل حجر الزاوية، الذي إذا ما انتُزع من هيكله هدم المبنى كلّه، وسادته الفوضى، وسمح بظهور هياكل ومبانٍ أخرى، ونحن هنا لا نتحدث عن انهيار النظام، ولكن عن هدم وحدة المجتمع السوري، فإذا نجحت الجرافات السياسية والعسكرية والطائفية والاقتصادية الإقليمية والدولية والداخلية، في هدم هذا الهيكل، سيحدث ما يحدث حين يتحرش أحد ببيت الدبابير، وهذا الهيجان سينتج عنه هيجان غير منقطع النظير في لبنان حيث سيختلط الحابل بالنابل، وسيجد الأكراد فرصة ذهبية للوجود العسكري على مساحة شاسعة، قد تنتقل إلى الداخل التركي، وقد يهب لواء الإسكندرون الذي منحته بريطانيا لتركيا، وسيجد الإسلاميون في الأردن ذراعاً إضافياً لهم في سوريا يشد من عضدهم في مقارعة الأردن، بحيث ستزداد سخونة الأحداث وتهدد النظام الملكي برمته، وقد تجد الجماعات الوطنية فرصة للتحرش بالكيان الصهيوني من الحدود السورية واللبنانية، وسيهب سكان هضبة الجولان السورية المحتلة للمطالبة بالحرية والتخلص من الاحتلال، ومن أجل هذا كله، تراجعت لهجة أردوغان، ويحاول النظام الأردني منع المتطوعين لمحاربة النظام السوري من أراضيه، ويقف حزب الله وحلفاؤه بحزم مع النظام، وكذلك إيران، وتحاول روسيا الصمود لأطول مدة ممكنة أمام الضغوطات والتحركات الدولية، ومن أجل هذا أيضاً، تشعر المعارضة السورية بالغبن، وتنكّر المجتمع الدولي لها، ولاسيّما مع تصريحات تنادي بالحل السلمي للمشكلة السورية، والانتقال السلمي للسلطة في أحسن الأحوال، ولهذا أيضاً، تنقسم المعارضة على نفسها، وتفشل في توحيد صفها، وخلال فترة بسيطة، أجبرت د . برهان غليون، رئيس المجلس الوطني السوري على الاستقالة، وهناك انشقاقات داخل الجيش السوري الحر، وفي السياق ذاته، كشفت ملابسات خطف اللبنانيين العائدين من زيارة دينية إلى إيران، هشاشة التحالفات بين قوى المعارضة .

الولايات المتحدة الأمريكية تدرك ما تقدّم، وتعلمه علم اليقين، ولا يهمّها أبداً هذه التداعيات، إلا فيما يتعلّق بالكيان الصهيوني وأمنه وتفوقه، وعلى الرغم من ذلك، تتردد في التدخل العسكري، نظراً لوعورة المنطقة، وصعوبة التنبؤ بشكل الأوضاع وحجم الفوضى، وعدم وجود حوافز مادية في سوريا، لا نفط، ولا أموال لإعادة الإعمار، ولهذا، فإنها وبعد أكثر من 15 شهرا، تؤيد، (مجرد تؤيد!)، فرض عقوبات دولية قاسية على سوريا تحت الفصل السابع “إذا لزم الأمر”، وتؤيد هذا لتوفير الدعم لطلب قدمته الجامعة العربية بهذا الشأن . وتقول الأخبار إن واشنطن تركز على تشديد العقوبات الدولية الاقتصادية “بما يساعد على تسريع تخلي الأسد عن السلطة”، أي أنها تؤيد مبدأ العقوبات الاقتصادية، وهو المبدأ ذاته الذي تعتمده في التعامل مع إيران، والموقف الأمريكي يشبه موقف الرئيس الفرنسي الجديد، الذي يؤيد عملاً عسكرياً في سوريا إذا ما صدر قرار عن مجلس الأمن، بينما تفضل ألمانيا الحل السياسي، وكذلك روسيا والصين، مع تباين مستوى وطبيعة الحلول وأهدافها، إلا أن بريطانيا، كما يبدو، ستأخذ زمام المبادرة عسكريا، فقد كشفت صحيفة “ديلي ستار صنداي” في الرابع من هذا الشهر عن وجود “وحدات من القوات الخاصة البريطانية، وعملاء جهاز الأمن الخارجي البريطاني (إم آي 6) انتشرت في سورية، وعلى استعداد لمساعدة المتمردين في حال اندلاع حرب أهلية فيها، خلال الأيام القليلة المقبلة، وهي مزودة بأجهزة كمبيوتر واتصالات تعمل بالأقمار الصناعية قادرة على إرسال صور وتفاصيل عن اللاجئين وقوات النظام السوري حسب تطور الموقف” . وذكرت الصحيفة أن “القوات البريطانية ستكون جزءاً من قوة دولية تضم جنوداً فرنسيين وأتراكاً، وربما أمريكيين أيضاً لحماية الملاذات الآمنة، والتي من المتوقع إقامتها في جميع أنحاء المناطق التي يمكن الوصول إليها بسهولة في سورية، حتى على مسافة قريبة من المناطق المضطربة” . وأضافت إن “قلعة الحصن القريبة من مدينة حمص، المجاورة للحدود مع لبنان هي واحدة من المناطق المرشحة لإقامة ملاذات آمنة فيها، إلى جانب مدينة السويداء القريبة من الحدود الأردنية، ومنطقة جسر الشغور القريبة من الحدود التركية” . وقالت المصادر للصحيفة إن مسؤولاً أمنياً بريطانياً “أكد أن عملاء من جهاز الأمن الخارجي البريطاني (إم آي 6) ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي إي إيه) موجودون على الأرض في سوريا لتقييم الوضع، فيما تجري القوات الخاصة البريطانية اتصالات بالجنود السوريين المنشقين لمعرفة احتياجاتهم من الأسلحة وأجهزة الاتصالات في حال قررت الحكومة البريطانية تقديم الدعم لهم” . والجدير ذكره أن هذا بالضبط، هو ما فعلته بريطانيا في بداية الأحداث في ليبيا، حيث أرسلت خبراء عسكريين إلى بنغازي .

ليس غريباً على بريطانيا أن تؤجج الصراع في سوريا عسكريا، وأن تقوم بتفتيت المجتمع السوري، فتاريخها في سوريا والعراق بعد الحرب العالمية الثانية معروف جداً، ويبدو أنها تفكر في إعادة (المجد) للعرش البريطاني .

السوريون أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يسمحوا بالتدخل الأجنبي العسكري الذي سيفتت مجتمعهم ويدمّر بيوتهم ويقتل أضعاف أضعاف الضحايا الذين سقطوا حتى الآن، ويسلموا سوريا للفوضى والعبث والمجهول، حتى بعد التخلص من النظام الحاكم، وإما أن يوحدوا صفوفهم للخروج من المأزق المصيري عن طريق التفاوض، وهو ليس تفاوضاً مع النظام على إبقاء النظام أو طرده، وإنما على وحدة المجتمع السوري، ومستقبل سوريا المعروفة دائما بالتعايش السلمي بين الأطياف المكونة لمجتمعاتها، وخلاف ذلك، سيحل ببلادهم الخراب والجوع والتشرد والانقسام .

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى