صفحات المستقبل

سوريا.. من المتخيل الشفوي إلى يقين الصورة/ نوار جبور

 

تحت ظل حكم الأسد، رُعي إلى حدٍ كبير، تثبيط أي إحياء للنزعة الوطنية السورية، سواء في شكلها الواقعي الذي عايشه السوريون في الخمسينيات إلى حدٍ كبير، أو في الجانب المتخيل، الذي كان ركيزة أساسية في إنشاء الديموغرافيا السورية المُستقلة، والداعم النفسي للحالة الثورية التي ارتبطت بها الثورات المتتالية ضد الاستعمار وآثار التقسيم التي حاول تكريسها.

وفي تراكم تجربة البعث، كان على الأقلوية العسكرية فيه أن تنفي كُل السمات الوطنية التي أسست تجربة المستقلين. وأن تُنحي رمزياً وتاريخياً كل ثقافة أنتجت وطناً موحداً، وهويةً وطنية تجاوزت مفاهيم الجماعات الطائفية، وثقافات نزاعاتها التاريخية. وأحيت اجتماعياً كل ذاكرة طائفية نزاعية عن طريق منهجين متلازمين: تبسيط التاريخ السوري نافيةً المتخيل الجماعي الوطني، فلا يبدو لسوريا الرسمية أنها تملكُ تاريخاً قبل قدومِ “البعث” والأسد خصوصاً. ذلك على مستوى كراساتها المُعتمدة كتاريخ، وفي الصحف المدرسية لأبنائهان هذا أولاً. وثانياً، من طريق عنف الدولة الممنهج والموجّه طائفياً والتنميط الأمني لتواصلية المجتمع. ما سبّب ردة فعل ناجاها النظام وحصدها في أزمة الثمانينيات، إبان حربهِ مع المجتمع، والتي تصدر واجهتها الإخوان المُسلمون. منذ ذلك الحين، كان الوجه الفاشي ضرورة استعمالية للنظام. أنهى المُجتمع تماماً، من كونه دعوة للتعبير عن المصالح. وأصبحت البُنى الاجتماعية العضوية السورية خاضعة لدوافع مخيالية ذاتية (غير سياسية أو اجتماعية) بل دينية – طائفية- و شفوية عامة في غالبها.

تتعمق المُشكلة الشفوية والتبسيطية في فهم الآخر والذات، خصوصاً عند الأقليات السورية، التي قلما لجأت إلى التاريخ المكتوب، ويُصور لها التاريخ على أنه مسكون بالأشباح، خصوصاً منذ الثمانينيات. فالسرد الشفوي -المُرعب – المُتناقل عبر الأجيال، سطحي، ومدعم بمخيلة هائمة بالقصص المرعبة المُجردة بالضرورة من أبعادها السوسيولوجية. “تكمن المُشكلة التي تُصبح أكثر عسراً عندما يتعلقُ الأمر بسلسلة من المعلومات تنتقلُ عبر أجيال عدة، في كون التاريخ الحقيقي – بصيغته الشفوية، هو تقريباً وبالضرورة ممتزج بالمتخيل، ويُمكن لهذا التاريخ أن يكتسحه المتخيل اكتساحاً”، يقول لوسيان بوا في كتابه “من أجل تاريخ للمتخيل”.

في ظل عدم وجود أي إطلاع على تاريخ النزعة الوطنية السورية، يبدو أن لدى الأقليات – العلويين خصوصاً – أن خالد العظم مثلاً يُوازي أحد الولاة العثمانيين الطائفيين في القرن السابع عشر. والتعميم يُتقن حينها نموذجاً تاريخياً خطياً، المُنعرج الوحيد فيه هو قدوم الأسد الأب وتحقيق المعجزة وإنقاذه للأقليات من براثين الأكثرية. في المشافهة والتاريخ، يبدو كل شيء قبل الأسد قتلاً وانتقاماً أكثرياً. والعلويون تحديداً لا يُساومون على صدق المشافهة السطحية، أياً يكن السند أو المرجع التاريخي. من هنا يبدو الفقر الرمزي المُكرس للشيخ صالح العلي مثلاً.  كان على العضويات الاجتماعية أن تتلبس ارتياباً مشتركاً، رغم أنه قد لا يُصيب أنماط الحياة السائدة. في الثورة السورية، كان لخزان المشافهة أن ينتقل إلى حيزِ أكثر خصوبة ومعنى، ذلك عبر الوسائط الإعلامية الحديثة، لا سيما “يوتيوب”، الذي كان له دور مركزي في خلخلة التوازن السوسيو – ثقافي السوري، بل في تغيير أنماط الرؤية كاملة.

تقمصت مقاطع “يوتيوب” ما يُمكن للعضويات السورية أن تُمارسهُ من أدوار اجتماعية، والمدى التاريخي، والصدى النفسي لعلاقاتها مع بعضها البعض. ويكفي لفهم الكثير من الأنماط اليومية المعيشة في سوريا اليوم، إدراج اسم الطوائف في دائرة بحث في “يوتيوب” لترى مئات مقاطع العنف المتبادل، والتقييمات الطائفية المُباشرة. ترتفع اليوم هذه المقاطع إلى مرتبة الوثائق بِلا شك. تُشكل أحد أهم أدوات المُحاججة في الشأن السوري، عدا عن مئات التقارير الموثقة. وتكتملُ سيرة السرد الشفوي البائس الذي يتمكنُ منه السوريون ببراعةن إضافة إلى انعدام العدالة الدولية التي في إمكانها وقف الحرب، حيث شكل الإشهار الطائفي المُصور نقطة استدلال ثابتة ومستمرة لديناميات التواصل بين الطوائف، بل حتى في إعادة تعريف الثورة السورية قاطبة بوصفها حرباً أهلية. فالمقاطع بكل زخمها اللفظي والسلوكي والرمزي تُحافظ على هويتها كوليدٍ يُسجل في سجل لا يُنفى ولا يُنفى الاستدلال عليها. ويُحور هوية الثورة أيضاً ويُغير طبيعة الاستدلال عليها. ليس انتقال وعي علاقة الطوائف مع بعضها البعض، من طور المشافهة المُتخيلة إلى طور المُشاهدة الموثقة، أمراً يسيراً. بل هي محفز لقلق تبئيري سيغير أنماط الحياة السورية. وسيستثيرُ تحولات يُعملُ على تجسيدها والدفاع عنها. بين زمن المتخيل، والزمن الآني، فسحة كمونية ذات نزعة وطنية سورية هائلة شكلت سورية الحديثة. سقوط الفاشية الحاكمة قد يكون كفيلاً باستعادتها. رغم أن المقاطع لن يُفنيها النص، بعكس ما كان قد ينجح بهِ النص أمام الشفوي المتخيل.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى