سوريا: مهن الحرب والضرورة/ كمال شيخو
ينطبق المثل الشعبي (ربّ ضارة نافعة) على حال أبو النعمان، تاجر الأسلحة في غوطة دمشق الشرقية. ففي حين يرزح معظم السوريين تحت الفقر جراء الحصّار، تزدهر تجارته في المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل المسلحة، حيث يبيع الأسلحة بكافة أنواعها.
أبو النعمان في بداية عقده الخامس، رجل دائم الابتسامة، يلبسُ زياً محلياً، سروالٌ أسودٌ عريض، وسترة نصف طويلة وغطاء “شماغ” وضعه على رأسه، يجلس يومياً في متجره الصغير. بداية حديثه لـ”المدن” كان منشغلاً بالتباحث مع زبائنه عن أسعار السلاح وأخبار المعارك في غوطة دمشق، إذ أن بعض مقاتلي الكتائب الناشئة يعتمدّون عليه في تأمين ذخيرتهم وشراء السلاح منه.
يقول أبو النعمان لـ”المدن” إنّ ” الحرب تجارة رابحة وأنا أريد من خلال عملي تقديم مساعدة للمقاتلين المعارضين لأنهم لا يملكون السلاح أو الذخيرة لأنهم يجهلون قنوات وجهات تأمين السلاح”.
أبو النعمان كان سابقاً مقاتلاً في إحدى تشكيلات الجيش الحر، إلا أنه ومنذ تسعة أشهر، أضطر إلى إلقاء سلاحه بعدما أصيب في ساقه اليمنى. يعرض على جدران متجره مختلف أنواع الأسلحة، من مسدسات عيار (9 ملم) ورشاشات (كلاشنيكوف) أحدها مطلي بالفضة.
يتابع قائلاً “هذه الأسلحة مصنعة إما في اميركا أو وروسيا، كما أنّ هناك أسلحة تأتي من دول أوربية، تتراوح أسعار القطعة بين 1500 و2000 دولار وأكثر، بحسب جودة ونوعية كل منها”. ويضيف”نبيع ألبسة عسكرية، وجزمات، وأقنعة واقية من الغازات السامة وأجهزة اتصال لاسلكية، وغالبية هذه المعدات تأتي من تركيا”.
يشير ابو النعمان إلى أن الأسعار غير ثابتة بسبب انخفاض سعر صرف الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، حيث تصل سعر الطلقة الروسية إلى حوالي 200 ليرة، ما يعادل 1.5 دولاراً أميركياً، كما تتضاعف أسعار الأسلحة المتوسطة والثقيلة والتي يكثر الطلب عليها.
أحد الأشخاص الذين يقومون بتصنيع الأسلحة، قال لـ”المدن” طالباً عدم الكشف عن اسمه إنه “لم تعد صناعة مدافع الهاون أو حشوتها أمراً صعباً في سوريا، هناك العديد من المعامل السرية التابعة لفصائل الجيش الحر التي تصنع هذه الأسلحة وتقوم بتوزيعها على باقي التشكيلات العسكرية المقاتلة”.
وأشار إلى أن “المواد الخام لصناعة هذه الأسلحة متوفرة، حيث أنّ الغنائم التي يحصدها مقاتلو المعارضة من معاركهم، من قطع السلاح والخردة وبقايا الأسلحة؛ يعاد تصنيعها محلياً حسب المواصفات المطلوبة”.
تجارة وتصنيع الاسلحة باتت مهنة منتشرة في أغلب المناطق التي تخضع لسيطرة المعارضة، ولم تعد مشاهدة محل أو بائع يعرض أسلحة مع رفع لافتة صغيرة عن سعرها؛ بالأمر المستحيل بعد مضي قرابة ثلاثة أعوام على الصراع في البلاد.
لكن بالإضافة إلى هذه المهن التي استحدثتها الضرورة، هناك مهن عادت للظهور بعد أن اختفت، إذ أجبر نقص الوقود والغاز السوريين، إلى إعادة إحياء المهن التقليدية الشعبية التي كانت مزدهرة قبل عقود، ولا سيما تلك التي كانت منتشرة في الريف السوري.
إحدى تلك المهن، إصلاح “بوابير الكاز”، حيث بدأت هذه المهنة تحقق حضوراً كبيراً مع وصول سعر قارورة الغاز إلى 6 ألاف ليرة سورية، فتحّول سوق المناخلية في وسط العاصمة إلى مركز رئيسي لهذه المهنة.
يقول أبو محمد لـ “المدن” هذه “مهنتي توارثتها عن آبائي وأجدادي إلا أنه توقفت بعد توفر الغاز وسخانة الكهرباء، الآن أقوم بإصلاح البوابير وأعمال اللحام القصدير المختلفة وأنا أمتلك قسماً من العدة اللازمة وورثتها عن والدي”.
كذلك، تظهر مهنة صناعة مدافىء الحطب الشعبية التي اختفت منذ قرابة عقدين بعد توفر بدائل أخرى للتدفئة. ففي ظل غياب المازوت وانقطاع التيار الكهربائي؛ كان لابد من إيجاد البديل السريع، فمدفأة الحطب المصنعة محلياً يصل سعرها إلى عشرة ألاف ليرة، وقد عمد بعض الحدادين إلى استخدام المواد المتوفرة في الأسواق من أنواع الصاج لتصنيع مدافئ الحطب.
وهناك مهنٌ جديدة ظهرت لأول مرة خلال الأزمة السورية، إحدى تلك المهن وبحسب التسمية الشعبية لها هي “الشئيعة”، ويمتهنها أطفال وفتية صغار من النازحين الذين شهدت مناطقهم معارك وقصفٍ، وتتراوح أعمارهم بين 10 إلى 17 عاماً، يشترون الخبز من الأفران بسعره الرسمي، ويبيعونه على بعد أمتار بأسعار باهظة.
يامن، طفل في بداية ربيعه الثاني عشر. كان يرتدّي قميصاً رقيقاً رغم برودة الطقس، أجبر على ترك الدراسة حديثاً وأعتاد أن يقف أمام الفرن لساعات ليبيع بالكاد بضع ربطات خبز يومياً أمام فرن ابن العميد في حي ركن الدين شمال دمشق.
سعر الربطة الرسمي في الفرن 15 ليرة بينما يبيعها يامن بـ 150 أو 200 ليرة سورية، ما يعادل دولاراً أميركياً واحداً إلى دولارٍ ونصف، ولا يقبل إنقاص حقها بأي شكل من الإشكال.
وعن سبب إصراره على هذا السعر قال يامن في حديث لـ”المدن” محتجاً “اللي بدوا يشتري بأقل من هيك يتفضل يصف على الدور كم ساعة هون؛ أنا موقف من صبحية ربنا والبايع عطاني أول شي بس رطبتين, بعدين رديت وقفت من جديد عرفني ولكن عطاني كمان ربطتين وبعد ما ترجيته إنو أنا بس عم أشتغل لأطعمي أهلي المحتاجين”.
المدن