سوريا: نخبة كاملة من المنافقين والمنتفعين
دكتور مصطفى قاسم
ماذا فعل النظام السوري، ويفعل، في النخبة المثقفة السورية؟ أننا في سوريا أمام حالة فريدة من المثقف المنافق الدجال وصاحب المصلحة في بقاء النظام، حالة متفردة حتى على المستوى العربي، الذي اجتهدت فيه النظم على شراء المثقف أو ترهيبه. لكن الحالة السورية تتسم بإفراط شديد في اصطفاف النخبة المثقفة في صف النظام القمعي المستبد، حتى وهو ينكّل بشعبه بأقصى درجات الوحشية، بل والأكثر شذوذوا وهو – أي النظام – يلفظ أنفاسه الأخيرة.
ففي حالة تونس كانت نسبة معقولة من المثقفين التونسيين يعادون النظام صراحة في كل قنوات الإعلام، وكانت نسبة أكبر تقف مع أبناء الشعب كتفا في كتف في المظاهرات والاحتجاجات المطالبة بالحرية ورحيل النظام. وفي حالة مصر كان غالبية المثقفين يعادون النظام صراحة، حتى من قبل اندلاع الثورة، وكانوا في قيادة الحركة الثورية في الشارع. وحتى في حالة اليمن نجد أن غالبية المثقفين الذي يظهرون على قنوات الإعلام تؤيد الثورة على النظام وتطالب برحيله. بل وفي ليبيا نفسها، التي عمل العقيد فيها على مدار أربعة قرون على تجفيفها من المثقفين والمفكرين، كان كثير من المثقفين الليبيين مع الثورة من البداية، وهو ما انعكس حتى على انشقاقات كثيرة في صفوف النظام الحاكم، سواء بين المدنيين أو العسكريين.
لكننا في حالة سوريا أمام حالة مختلفة تماما: نخبة مثقفة وسياسية وإعلامية تصّف نفسها بالكامل في صف النظام الحاكم، وتردد خطابه “بحذافيره”، وتصّم أذانها وتعمي عينها عن حقيقة ما يجري على أرض بلدهم. فنحن نادرا ما نسمع إعلاميا أو أكاديميا أو نائبا برلمانيا يقدم خطابا مخالفا، ولو قليلا، لخطاب النظام، أو يصف حقيقة ما يحدث في سوريا، حتى أصبحنا أمام فُصام كامل بين ما يحدث على الأرض وما يصدر عن النظام وأبواقه. فالصورة الواردة من الشارع وأصوات المواطنين تؤكد أننا أمام شعب ثائر من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية، بينما لا ينفك صوت النظام ومثقفوه عن الحديث عن “الإرهابيين” و”السلفيين” و”الشبيحة” و”الجماعات المسلحة”. والصورة الواردة من الشارع تقول أن النظام يمارس القتل بأبشع صوره باستخدام الدبابات والأسلحة الثقيلة، وتكشف عن قتل عشوائي بالجملة ومقابر جماعية وحصار للمدن واعتقال وتعذيب الآلاف وفقد عشرات الآلاف، بينما يصّر صوت النظام ومثقفوه على أن ثمة جماعات مسلحة تقتل أفراد الأمن والجيش.
فما الفرق بين المثقفين العرب في تونس ومصر واليمن وليبيا من جانب والمثقف العربي في سوريا؟ وما تفسير ذلك الاختلاف؟ إن هذا الموقف “الشاذ” من جانب المثقف السوري ينتج بالتأكيد – في رأيي – إما عن الخوف، أو المصلحة الشخصية، أو رؤية منحرفة للصالح العام السوري، أو عن خطاب المقاومة الذي يرفعه النظام السوري، وبالتأكيد عن توليفة من هذه العوامل.
ربما كان الخوف هو العامل الأول الذي يدفع المثقف السوري للاصطفاف في صف حكومته، حتى وإن كان قلبه يقف مع الثورة والثوار، وكأنهم يعيدون موقف أنصار الحسين بن علي في الكوفة عندما قالوا “قلوبنا معك وسيوفنا ضدك”. ولهذا الموقف في سوريا ما يبرره. فالنظام في سوريا يختلف عن سابقه في تونس، وخاصة في مصر. فالنظام المخلوع في مصر كان يترك هامشا كبيرا لحرية الرأي والاختلاف، وكان تبريره لذلك ما كنا نسميه “ديمقراطية النباح”، وتجسد في كلمة المخلوع مبارك “سيبهم يتسلوا” في تعليقه على مرشحي مجلس الشعب الذين شكّلوا برلمانا موازيا بعد أن استبعدهم التزوير الفاضح من النجاح في الانتخابات. لكن في مقابل ديمقراطية “التعبير فقط” المصرية، لا يقبل النظام السوري أدنى درجة من الاختلاف مع خطابه، ويعتبرها انشقاقا عليه وعدوانا على الدولة. وهو في ذلك أسبق على رؤية جورج بوش الابن “من ليس معنا فهو ضدنا”. معنى ذلك أن رهان المثقف السوري الذي يريد أن يفترق عن النظام رهان فادح بكل معنى الكلمة. فالأمر لا يقتصر على تهميشه أو استبعاده من الترقي الوظيفي أو إقصائه من المجال العام، كما حدث مع سميرة المسالمة رئيسة تحرير صحيفة تشرين، وإنما قد يُفقِد المثقف وظيفته، أو حتى حريته، بالاعتقال والسجن بعيدا عن القانون.
لكن هذا التفسير، رغم قوته، لا يساعدنا في فهم موقف المثقف السوري بالكامل. فثمة فرق واضح بين التأييد “الصادق” للنظام والتأييد “النابع من الخوف”. فالمثقف الرافض الخائف يستطيع أن يصمت، فلا “يُطبّل” للنظام فيخالف قناعته، ولا يعارضه صراحة، فيفقد لقمة عيشه أو حتى حريته. فأنا إذا كنت أؤيد ثورة الشعب وأخاف في بطش النظام، فيكفيني أن أصمت، فلا أكون مع هذا أو ذاك، وهذا “أضعف الإيمان”. أما أن أتحين الفرص للدفاع عن النظام والتهجم على ثورة الشعب وتشويهها، فلا بد أن ثمة أسباب أخرى لهذا الموقف الشاذ من المثقف السوري.
تبرز المصلحة الشخصية “الأنانية” كتفسير ثان وقوي للموقف “المنافق” للمثقف السوري. فنحن جميعا نعرف أن نظم الاستبداد العربية دأبت على مدى عقود على تدجين المثقفين وتهجينهم، إن لم يكن بالإرهاب والعصا، فبالاحتواء والجَررة. فمن لا تفلح معه العصا، قد تنفع معه الجزرة، أو العكس. ونعرف، قبل ذلك، أن دولة الاستبداد العربية كانت تجند كل إمكانات الدولة لغاية واحدة، هي الحفاظ على النظام الحاكم وتأبيده. ولذلك استخدمت المال العام والوظائف العامة، وكل ما أوتيت من قوة، لكي تستميل المثقف وتشتري ولاءه، أو صمته على الأقل. وبالفعل نجحت نظم عربية كثيرة، على رأسها سوريا، في جعل المثقفين جزءا لا يتجزأ من النظام، حتى صار سقوط النظام تضييعا للمكاسب المادية التي حققها هؤلاء المثقفين.
لكن هذان التفسيران، على وجاتهما، يعبران عن عقلية المؤامرة من جانب من يرفعهما. فكان الأولى أن نفسر موقف المثقف السوري بأنه نابع عن قناعته بصالح سوريا، شعبا وحكومة. فمن الوارد أن يكون هؤلاء المثقفين يصدرون في موقفهم عن قناعة بأنه ليس ثمة بديل أفضل للواقع القائم في سوريا، أو على الأقل أنه الواقع الأفضل أو الأقل سوءا. وهذا بالفعل هو الخطاب الذي يرفعه كثير من المثقفين السوريين.
لكن هل يقبل العقل، خاصة عقل المثقف التقدمي المستنير، مثل هذا الموقف؟ هل الوضع في سوريا هو أفضل ما يمكن أن يطمح إليه الشعب السوري؟ أو على الأقل هو الوضع الأقل سوءا فيما يمكن أن يصير إليه الحال في سوريا؟ إن الإجابة هي “لا” قاطعة ومدوية. فالنظام في سوريا هو الأسوأ عربيا، بل وربما عالميا، في مجال الحريات وحقوق الإنسان. والمثقف العربي الذي لا يتبنى الديمقراطية والحرية ودولة القانون غاية أولى وبديلا وحيدا لشعبه ودولته يخون شعبه بالتأكيد، ولا يستحق أن يكون من المثقفين.
وإذا كان هؤلاء المثقفين يخافون على سوريا مما قد تنساق إليه في حال سقوط النظام من تفتيت أو طائفية أو سيطرة للسلفيين، أو حتى ضياع الصوت المقاوِم، فقد كان بإمكانهم أن يطالبوا النظام بأن يقوم هو نفسه بقيادة عملية تغيير ديمقراطي حقيقية، يضمن فيها بناء دولة ديمقراطية حقيقية، إلى جانب الحفاظ على وحدة سوريا ونظامها المدني “العلماني”، بل وحتى ضمان استمرار الصوت المقاوِم. لكن هؤلاء لا يطرحون بديلا لمطالب الشعب، ولا بديلا لخطاب النظام. فأقصى ما يصل إليه هؤلاء، من باب ذرّ الرماد في العيون أو تحسين صورتهم القبيحة، هو الإقرار “الواهن” بحق الشعب في المطالبة بالتغيير والإصلاح.
وحتى الحفاظ على سوريا المقاوِمة لا يصمد تفسيرا لموقف المثقف السوري. كان معظمنا يؤيدون سوريا ورئيسها الشاب ومواقفها الدولية، قبل أن تندلع الثورة الديمقراطية العربية، رغم رفضنا “الصامت” لتوريث السلطة. لكننا كنا حيذاك نختار بين “مستبد عميل أو مهادن على الأقل” و”مستبد مقاوِم ولو بالكلام فقط”، وكنا بالطبع نصطف مع “المقاومة ولو بالكلام”. وكان المثقف العربي يضطر إلى هذا الموقف ليأسه من التغيير في الوطن العربي. فكان الطريق الوحيد إلى التغيير يمر من خلال التدخل الأجنبي، على غرار ما حدث في العراق، وهو طريق يرفضه الجميع، وقد ثبت فشله. وكان الشعب العربي مستبعدا تماما من المعادلة. لكن ما أن كشف الشعب عن وجهه الثائر والمطالب بالحرية والديمقراطية والكرامة والعزة، وعلى رأسها الصمود والمقاومة والدفاع عن قضايا الأمة ومصالحها، فلم يعد ثمة مجال للمقايضة بين الاستبداد ورفع خطاب المقاومة.
فضلا عن أن المثقف الذي لا يرى الاقتران بين الاستبداد وضعف الدولة والنظام العربي داخليا وخارجيا، وبين الديمقراطية وقوة الدولة النظام العربي داخليا وخارجيا، مثقف أعمى، أو أعمته مصالحه أو خوفه. والأيام القليلة التي مرت على ثورة مصر تؤكد أن الشعب العربي الحر، أيا كانت الدولة التي يعيش فيها، هو الضمانة الحقيقية لكل قضايا الأمة العربية. بل وأكاد أزعم أن الموقف العميل لنظام مبارك كان من الأسباب القوية للإطاحة به.
لكل ذلك لا أجد تفسير الخوف أو الرؤية المعوّجة للمصلحة السورية، شعبا وحكومة، ولا تفسير الحفاظ على النظام المقاوِم، لا أجده تفسيرا وجيها للموقف “الخائن” و”العميل” للمثقف السوري. ولا يبقى، إذن، غير التفسير “المصلحي الأناني”، حيث أصبحت النخبة المثقفة جزءا من النظام وانجدلت مصالحها مع مصالحه. بالطبع إلى جانب احتمال التفسير المُركّب من كل هذه العوامل.
ولهؤلاء “المصلحيين الأنانيين” نقول: كفاكم ما استنزفتموه من النظام في مقابل تضليلكم للشعب وتعميته لصالح النظام البوليسي القمعي الوحشي. فمكاسبكم لن يطالها الأذى من الشعب ومن الثورة إن أنتم غيّرتم موقفكم اليوم واصطففتم في صف الشعب وثورته. لكنكم ستخسرون حتى “الجلد والسقط”، بتعبيرنا في مصر، إن نجحت الثورة وأنتم على موقفكم الذي يضعكم مع النظام في خانة واحدة.
mkassem@hotmail.com