صفحات العالم

سوريا: نقد المرحلة السابقة ومهمات المستقبل


د. نقولا زيدان

يتساءل التقدميون العرب ودعاة التغيير وأنصار الربيع العربي بقلق مبرر ومحق، وفي اللحظة التاريخية الراهنة عن مآل الانتفاضة الشعبية السورية وهي ما زالت تقارع من دون هوادة النظام الأسدي الفاشي في دمشق. فقد انقضت حوالى السنة، وما زال النزيف مستمراً، وحمامات الدم تتصاعد على طول امتداد الساحة السورية. فبعد سقوط النظام التونسي والمصري والليبي، وإبرام التسوية اليمنية التي أنهت حكم علي عبد الله صالح، ساد اعتقاد مبالغ في التفاؤل فأقر قراءة خاطئة للمعطيات العربية والدولية في دنو سقوط النظام السوري. فالآلة العسكرية السورية، وسواعدها الأمنية والمخابراتية وما استطاع النظام دفعه الى ساحات المواجهة في المدن والأرياف الثائرة لسحق الجموع الغاضبة والمتدفقة ببسالة مثيرة للإعجاب، مكنته من استفراد كل مدينة ومنطقة، الواحدة تلو الأخرى، أضف الى ذلك أن المعارضة السورية، بمجلسها الوطني وسائر الهيئات الأخرى، ما زالت تقود الحركة الثورية تحديداً من الخارج. كما أن الجيش السوري الحر، رغم التضحيات الميدانية التي يبذلها في الداخل لم يتمكن من زعزعة كاملة للجيش الرسمي الذي دأبت الأسرة الحاكمة على امتداد أربعين سنة على تنظيمه وترتيب صفوفه وإحكام قبضة الأجهزة الأمنية عليه لتسهر على ولائه للنظام ولاء مطلقاً. وبالمقابل ما زال يسيطر على قيادة المعارضة رعيل كامل من المثقفين والمفكرين المنتمين “للانتلجنسيا” السورية في ظل غياب ملحوظ للكادرات النقابية والفلاحية، وهما العنصران البالغا الأهمية والضروريان لإدارة المعركة الداخلية. فلم نشهد اطلاقاً قيادات نقابية بارزة تحتل موقعاً قيادياً في المجلس الوطني أو سائر التنسيقيات المعارضة الأخرى، ما يضعف الثورة ويطيل أمر سقوط النظام.

ربما نكون قد استسهلنا المعركة الدائرة مع النظام، واعتقدنا خطأ بإمكانية سقوطه القريب والوشيك، وعلينا الإقرار بأن ذلك هو تقدير غير دقيق، لا بل ساهم في هذا التقدير الخاطئ حالة من الترقب والميوعة تسود الصف العربي. فالزخم الشعبي السوري الثائر على النظام ظل على الدوام وعلى امتداد شهور كاملة من الزمن يتساوق مع ضجيج إعلامي عربي لم يجد ترجمته ببلورة دعم لوجستي فعلي في داخل سوريا وعلى أرض المعركة. فالنظام السوري استطاع إحاطة نفسه وتسوير سوريا بالعديد من دول الجوار التي، إما تقدم، الدعم والعون له وتتواطأ معه في مواجهة الثورة، أو تكتفي بالزعاق الإعلامي انسجاماً مع مصالحها الإقليمية والدولية.

فالسلطة القائمة في العراق والتي هي ثمرة تفاهم أميركي إيراني والتي يُفترض بها مقارعة حزب البعث “مصدر كل الشرور” هناك، أمدت نظام دمشق بما يحتاجه من مقاتلي الحرس الثوري الإسلامي الإيراني وأعادت الى النظام البعثي السوري ما كان أرسله إليها من عناصر القاعدة خلال حربي الخليج الثانية والثالثة لمقارعة الأميركيين، لا بل استمات في أروقة الجامعة العربية في الدفاع عن مواقف دمشق. كما أن نظام قوى الأمر الواقع في لبنان، علاوة على الدعم الإعلامي الرسمي والخاص ووضعه الديبلوماسية اللبنانية في خدمة نظام دمشق ما زال يقدم للسلطة هناك خدمات مصرفية واقتصادية هي بحاجة ماسة إليها للاستمرار. ولعل الموقف التركي حيال الأزمة الثورية هو المادة الأكثر إثارة للالتباس والحيرة والإحباط. فبعد التصاعد الحاد في مواقف المسؤولين الأتراك والنبرة العالية التي رافقت تهديداتهم للنظام السوري والتلويح بغير مناسبة بالتدخل العسكري، بل احتضان تركيا للمجلس الوطني السوري وقيادة الجيش السوري الحر، وإيواء النازحين السوريين، إذا بنظام أنقرة يتلهى ذات اليمين وذات اليسار تارة بملاحقة حزب العمال الكردستاني وطوراً بلعب دور الوسيط بين طهران والغرب للحؤول دون مواجهة عسكرية بينهما على خلفية نشاط طهران النووي، فتوقّف التلويح بالتدخل العسكري في سوريا وأصبح الزعماء الأتراك أشد الدعاة لتسوية سياسية للأزمة السورية. أما الأردن الذي قضت مضاجعه المطالب الشعبية المطالبة بالحد من الفساد وتصاعد تحركات الإسلاميين فأصبح همه الحفاظ على أمنه الداخلي واستقراره فجاءت مصالحته مع حماس لتعزز هذا الاستقرار.

بالطبع كان لافتاً ومؤثراً موقف بعض الدول العربية كالدعم المالي القطري السخي وتحرك الدوحة الديبلوماسي على الصعيد الدولي، بالإضافة لموقف دول التعاون الخليجي بعد طرد السفراء السوريين والمحادثات الروسية الخليجية المزمع عقدها حول الأزمة السورية بالإضافة الى الدعم المالي الليبي واستضافة تونس لمؤتمر أصدقاء الشعب السوري… إلا أن كل هذا النشاط لا يخفف عملياً من وطأة معاناة الشعب السوري ولا من مشكلات الانتفاضة. لقد أصبح جلياً، خصوصاً أمام المنعطف الدولي الراهن الذي تقف فيه روسيا والصين كلياً الى جانب النظام السوري أن ثمة إعادة قراءة عميقة وضرورية لكل جوانب المعطى السوري بما فيه المعارضة أياً كانت تلاوينها والجيش السوري الحر مهما كانت تعثراته واستخلاص الدروس من المرحلة السابقة. إن الغرب وبالأخص أميركا ليسوا في صدد لا التدخل العسكري ولا حتى تسليح المعارضة ولا لاجيش السوري الحر.

إن على الانتفاضة الثورية أن تعتمد على نفسها، وأن تعيد تنظيم صفوفها، وتوحيد معارضتها على قاعدة برنامج الحد الأدنى المرحلي، وأن تختار هي قياداتها الشعبية الدورية المجربة، وأن تنبذ الشحن الطائفي والمذهبي حتى ولو كان أمراً واقعاً مريراً، وأن تنتقل الى الداخل السوري، لأن الداخل هو المحك والمعيار ودليل الصدقية. عندها ستدرك جماهير سوريا بتجربتها الخاصة صحة الخط الثوري الجديد، فتخرج جميع المدن وكل الأرياف من قمقمها وسيسقط النظام.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى