سوريا و”البازار” الدولي
غازي العريضي
تشهد الأزمة السورية تطورات دراماتيكية في الأيام الأخيرة، وخصوصاً بعد زيارة الموفد الدولي العربي كوفي أنان إلى سوريا.
أنان حمـّل في الدوحة في اجتماع وزراء الخارجية العرب، مسؤولية تعثّر خطته بنسبة كبيرة إلى النظام السوري! وزراء الخارجية طالبوا بتبني الفصل السابع في مجلس الأمن وبوقف بث الفضائيات السورية عبر القمرين الصناعيين “عربسات” و”نايل سات”.
الأسد في خطاب جديد أمام مجلس الشعب ردّ مؤكداً أن كل ما يجري في سوريا هو بسبب التدخل الخارجي، وأنه يواجه الإرهاب، وقد حسم مسألة الإصلاح السياسي إذا كانت القضية قضية إصلاح، وجرت انتخابات وستشكل حكومة جديدة. كل هذا يجري على وقع مجزرة “الحولة”، التي حُمّل النظام السوري مسؤوليتها في كل المنتديات تقريباً. في هذه الأثناء ارتكبت مجزرة جديدة في منطقة “القبير” في ريف حماه. ومسلسل المجازر ينتقل من مكان إلى آخر. ومنع النظام المراقبين الدوليين من الوصول إلى مكان المجزرة.
كوفي عنان انتقل إلى الأمم المتحدة ثم مجلس الأمن. قدم إفادته، حمّل النظام المسؤولية. “الأزمة السورية ستخرج عن السيطرة قريباً”. “لا بد من ممارسة الدول الكبرى ضغوطاً ملموسة على دمشق وإبلاغها بأن عدم احترام نقاط الخطة الست سيكون له نتائج كارثية”! الأمين العام للأمم المتحدة “بان كي مون”، أكد “أن الآمال في تماسك خطة عنان في سوريا تتبدّد! “والرئيس السوري وحكومته فقدا الشرعية”!
وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، وفي مؤتمر صحفي مشترك مع نظيرها التركي أحمد أوغلو، وبعد اجتماع لعدد كبير من وزراء الخارجية العرب والأوروبيين والغربيين عقد في تركيا قالت: “على الأسد أن ينقل سلطته ويغادر سوريا”.
الناطق باسم البيت الأبيض الأميركي “جاي كارني”، انتقد مجزرتي “الحولة والقبير” وقال: “هذا الأمر غير مقبول. ورفض النظام السوري السماح لمراقبي الأمم المتحدة الدخول إلى المنطقة للتحقق من هذه المعلومات، يُشكل إهانة للكرامة الإنسانية والعدالة”!
المندوب السوري في مجلس الأمن “فيتالي تشوركين” أكد خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة أن بلاده ستقدم مبادرة حول الوضع في سوريا في مؤتمر ستدعو إليه مشيراً إلى أنه “يجب عدم المطالبة بالتغيير الفوري للنظام في سوريا”!
وتأتي هذه التطورات بعد طرد السفراء السوريين من عدد كبير من دول العالم. وتحميل النظام مسؤولية ما يجري وما يرتكب من مجازر. ومع تصعيد في الوضع الميداني في مختلف أنحاء المحافظات السورية واتساع رقعة المواجهة مع النظام. ولا ندري من الآن وحتى صدور هذه المقالة كم من الضحايا سيسقط؟ وهل ستكون ثمة مجازر جماعية جديدة أم لا؟!
والذين يحذرون من خطر اندلاع حرب أهلية، يحاولون تجنب تأكيد الوقوع في هذا الخطر. أو تجنب الوصول إليه ويعتبر بعضهم أن ذلك لا يزال ممكناً. لكن الحقيقة أن سوريا تعيش حالة الحرب الأهلية. فالدمار والخراب الذي استهدف المؤسسات والممتلكات والخسائر البشرية الكبيرة وعمليات “التطهير” المذهبي التي تشهدها مناطق عديدة، والخطف والسلب والفوضى والمجازر، هي عناوين ومواد هذه الحرب اليومية المفتوحة ولا سيطرة على الوضع إطلاقاً ولذلك تتكثف الاتصالات، وتكثر المبادرات في محاولة لوقف هذه المسألة عند حدود معينة، ومنع تمددها في الداخل وإلى الخارج في محيط سوريا.
الوضع معقد، وكما سبق وذكرنا منذ البداية، نحن أمام بازار دولي كبير يضع مستقبل سوريا على الطاولة، وإذا كانت روسيا بشكل خاص تمنع سقوط النظام من خلال تمسكها بحق “الفيتو” في مجلس الأمن، فإن ذلك لا يعني أن هذا الموقف سيبقى ثابتاً حتى النهاية بسبب أمرين: الأول يعود إلى إصرار الناس في سوريا على استكمال معركتهم مع النظام مهما كانت كلفة ذلك. والناس هم المعارضة الأقوى الثابتة على الأرض. قد تنقسم الدول والقوى حول معارضات في الخارج أو معارضات في الداخل. حول شرعية هذه أو تلك، أو ميول وتوجهات وأهداف هذه أو تلك.
قد ينقسم هؤلاء حول تسليح أو عدم تسليح المعارضة، لكن الواقع على الأرض يفرض نفسه. والناس بمواقفهم وتحركاتهم ومواجهاتهم يسبقون كل هؤلاء. وهذا أمر لا يمكن تجاوزه. هذا هو الأمر الأهم والحقيقي، الذي يؤدي إلى الأمر الثاني المؤثر في الموقف الروسي، وهو أنه في لحظة معينة واستناداً إلى الأمر الأول ستجد روسيا نفسها مضطرة لتفاهم ما أو حقيقة ما وتحديداً مع الأميركيين وتأخذ شرعيتها من الأمم المتحدة. فتكون قد منعت التفرد الأميركي. حرصت على “احترام” الشرعية الدولية وأكدت الشراكة الدولية وحفظت مصالحها في المنطقة وكرّست دورها فيها.
من الآن وحتى الوصول إلى هذه الصفقة سوف تدفع سوريا أثماناً كبيرة آخذين بعين الاعتبار تداخل الملفات ببعضها البعض، وخصوصاً الملف النووي الإيراني وربطه بالأزمة السورية من خلال التحالف السوري – الإيراني. وهذا أمر لا يمكن تجاهله روسياً وأميركياً. إضافة إلى المصالح الإسرائيلية والتأثير الإسرائيلي في إنتاج قرار التغيير والصفقة، وكذلك الدور التركي المهم في هذه العملية.
وتدور المفاوضات أو الاتصالات الروسية الأميركية بين حدّين. عبّر عنهما دبلوماسياً بدقة متناهية.
الإدارة الأميركية تقول: “تنحي” الأسد ليس شرطاً مسبقاً للبدء بالعملية الانتقالية السلمية”. والإدارة الروسية تقول: “بقاء الأسد ليس شرطاً لانتهاء العملية السياسية”. هذا هو الميزان الروسي – الأميركي، فالحدود محددة، وبالتالي مهما طالت المسافات أو قصرت الواضح أن لا أحد متمسك ببقاء الأسد. ربما ثمة طرف يريد التخلص منه بسرعة وفوراً، ولكن إذا لم يكن ذلك ممكناً فلا حول ولا قوة إذا تأخرت العملية، وقد يكون في ذلك مصالح مختلفة تتحقق في الطريق أهمها دمار سوريا وخرابها وتفككها وإضعافها وهذا يفيد إسرائيل أولاً ومن يدعمها ، لكن في النهاية “ليس ثمة مكان في المستقبل لهذا النظام” كما يرى هذا الطرف. أما الطرف الثاني فقد يكون غير ميّال للتغيير، لكن الوقائع تفرض نفسها على الأرض عليه وعلى غيره وبالتالي هو يستعد لمواجهة هذا الاحتمال. بين هذين الحدّين يدور البازار ويدفع الشعب السوري الثمن. ويبدو أن الأمور تتجه إلى مزيد من التصعيد ونزف الدم. المعارضة، الناس، لن يتراجعوا. والنظام مستمر في سياسة الهروب إلى الأمام تحت عنوان مكافحة الإرهاب!
الاتحاد