سوريا والتدخل الخارجي
سمير سعيفان
لم يشهد تاريخ سوريا منذ استقلالها هذا التدخل الكثيف بشؤونها الداخلية، بعد أن تسبب الحل الأمني لنظام الأسد بفتح باب التدخل الأجنبي على مصراعيه. إذ لم تكن سوريا في أي يوم مباحة على هذا النحو. فقد كانت سوريا مركز الدعوة للاستقلال عن السيطرة العثمانية ومنطلق فكرة القومية العربية. وكان ساستها ومثقفوها وشخصياتها الاجتماعية تتميز بنزعة وطنية استقلالية صلبة. أذكر أنني قرأت مرة ما كتبه محمود رياض، الأمين الأسبق للجامعة العربية، من أنه خلال عمله سفيراً في سوريا أواسط خمسينات القرن العشرين، لم يكن ينفق ربع المخصصات المالية السنوية التي كانت تخصصها الخارجية المصرية للتقرب وشراء ولاءات الشخصيات والسياسيين والضباط السوريين، بينما كان زميله في بلد مجاور ينفقها منذ الربع الأول من العام.
مع انطلاقة الثورة السورية استعمل الأسد ومجموعته المتمسكين باغتصاب السلطة، استعملوا كامل براعاتهم وقدراتهم على القتل والتدمير والتهجير والتحريض واستثارة المشاعر لدفع الثورة السورية نحو حمل السلاح واتخاذ طابع مذهبي بغية خلط الأوراق. وبنتيجة ذلك أصبح الحراك السلمي للتغيير أمام خيارين، إما أن يقبل الهزيمة وإما أن يتوجه لطلب المساعدة الخارجية. ولكن التصميم على الخلاص من الاستبداد والتوق للحرية كان أقوى.
تصريحات قادة دول عربية وغربية التي رأت في الثورة السورية فرصة للخلاص من نظام مشاكس خلق لها الكثير من المشكلات، هذه التصريحات شجعت الحراك الثوري على الاستمرار. وقد أمل جزء كبير من السوريين بأن يتدخل المجتمع الدولي بطريقة ما لوضع حد لهذا النظام، وقد أغراهم تدخله في ليبيا معتقدين أن موقفه تجاه سوريا لن يختلف عن موقفه تجاه ليبيا. وعندما خاب أملهم بالتدخل العسكري أملوا في إقامة حظر جوي ليحميهم من قصف طائرات النظام، وعندما خاب أملهم في الحظر الجوي أملوا في إقامة منطقة آمنة في شمال سوريا، وعندما خاب أملهم بذلك أملوا في الحصول على سلاح نوعي يعطل طيران النظام ودباباته، ولكن حتى هذا لم يحصل.
لقد أمسك المجتمع الدولي ‘الغربي’ بالعصاة من منتصفها، فقدم دعماً يضمن استمرار الثورة السورية ضد بشار الأسد وضمان عدم انتصاره عليها من جهة، ولكن من جهة أخرى وضع سقفاً لدعمه بحيث لا تنتصر الثورة على بشار الأسد ونظامه، فاستمر الصراع ل قرابة 20 شهرا حتى الآن. أما الدعم العربي فهو مسقوف بقرارات المجتمع الدولي ‘الغربي’. وهذا ما أدى إلى استمرار الصراع وإلى المزيد من القتل والتدمير والتشرد والمعاناة بكافة أشكالها. وقد أدى هذا الوضع لاضمحلال الطابع السلمي المدني الديمقراطي للثورة وعزز الطابع العسكري والديني والمذهبي وأفسح في المجال أمام التوجه الماضوي. وقد لعب في تعزيز هذا التوجه المال الذي يتدفق من بعض جهات خليجية رسمية أو أهلية التي دعمت المجموعات ذات التوجه الديني بينما لم تحصل المجموعات ذات التوجه المدني الديمقراطي على أية مساعدات تذكر. وكل هذا أمثلة على التدخل الخارجي في الداخل السوري لدفع الأوضاع في سوريا باتجاه محدد.
من جهة أخرى استنجد النظام بحلفائه من إيرانين وروس، وحلفائه في لبنان والعراق الذين قدموا الدعم المالي واللوجستي والبشري والاستشاري والتدخل المباشر في إدارة الصراع. ولافروف يصبح أشبه بالناطق الرسمي باسم النظام السوري ويطلق تصريحات نارية أكثر بكثير من وليد المعلم أو جهاد مقدسي.
الداخل السوري أصبح مكشوفاً للخارج بقوة غير مسبوقة. حصل كل من الطرفين على دعم باشكال مختلفة. لكن من يقدم دعماً إنما يقدم لغاية ما في نفس عثمان أو يعقوب، وقد تكون غاية إنسانية، ولكن الدعم حينها قد لا يزيد عن التصريحات الكلامية وربما بعض المساعدة الإنسانية، كما تفعل دول الغرب حالياً، التي تبرعت كل منها ببضعة ملايين إغاثية، لا تغني ولا تسمن من جوع. وقد يكون لها مصالح أكبر مثل إسقاط نظام يسبب لهم وجع رأس، هنا يكونوا مستعدين لتقديم دعم أكبر، ولكن دول الغرب هنا التي لها مثل هذه المصالح تفوض الدول العربية النفطية لتدفع بدلاً عنه. ولكن للدول التي تقدم دعماً مادياً مصالح مستمرة في المستقبل وتريد أن يكون نفوذها ملموساً.
المجلس الوطني نشأ برعاية تركية ودعم عربي وفرنسي. ولعبت قطر دوراً حاسماً في تشكيل الائتلاف الوطني الجديد. واجتماعات المعارضة يحضرها سفراء دول عربية وغربية ويسعون للتأثير فيها. وخلافات المعارضة فتحت الباب لمزيد من تدخلهم، وكتائب الجيش الحر تتلقى دعماً مباشراً من جهات عربية مانحة قطرية وسعودية وليبية. وبدون هذا الدعم ما كان لها أن تستمر في مقاومتها.
التدخل الأجنبي يلقى الكثير من النقد، وبعض من ينتقده يتلقى دعماً أجنبياً ويسعى إليه، أما بعض من هم مخلصون حقاً في انتقادهم فلهم موقف شبه طوباوي، ولا يرون من الأزمة السورية سوى هذا الجانب. فلولا المجتمع الدولي عموماً ودعمه السياسي ولولا المال العربي من دول النفط ولولا موقف تركيا أساساً وفتحها للحدود لتمكن النظام من وأد الثورة في الشهور الأولى.
عدا التدخل عبر الدعم المالي والدعم بالسلاح، يأتي التدخل السياسي فتصبح مصائر سوريا تناقش بل وتقرر في اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات الدولية المعلنة وغير المعلنة، كما يأتي عبر التدخل الإعلامي فتصبح سوريا الخبر الرئيسي في كم كبير من وسائل الإعلام ذات التأثير والتي يتخذ ضخها الإعلامي منحى معينا ساهم، مع الضخ المالي المشروط، في دفع جزء كبير من الحراك الثوري السوري باتجاهات مذهبية معينة، بل وتترافق المساعدات مع شكل تدخل في الحياة العامة اليومية، فتفرض بعض الجهات المانحة على السوريين في بعض المناطق التشدد والتزمت في المعتقد والسلوك لتغيير طرق العيش المعتادة والمألوفة منذ قرون وبما يتنافى مع التقاليد السورية الوسطية.
النظام وبشار الأسد المتمسك بالكرسي والمجموعة الضيقة التي من حوله هي المسؤولة أولاً واخيراً عما آلت أو ستؤول إليه الأوضاع والتي تهدد سوريا ومستقبلها بالتفجير وسينتهي كل شيء تقريباً بتنحيه.
لكن مهما كانت ضرورات الصراع التي أباحت كل هذه المحظورات، فسيكون لها آثارها المستقبلية، فكيف سيتم مواجهتها، و كيف سيتطور الأمر مستقبلاً، وهل سيتطور ليصبح كما لبنان حيث قام منذ قرون على التدخل الأجنبي، أم سيتطور كما العراق الذي لم ينته الاقتتال فيه حتى الآن رغم خروج الأمريكان، أم سينجح السوريون في تطويق كل هذا والتغلب عليه والانطلاق بسوريا نحو مستقبل ديمقراطي مدني جديد؟.
أعتقد أن هذا الأمر يتوقف على كيفية انتهاء الصراع في سوريا، وهل ستترك سوريا ينهشها الاقتتال بحيث تنتهي إلى فوضى وتنهار مؤسسات الدولة وتقوم مكانها جماعات مسلحة وربما عصابات محلية؟.
إذا ما تدهور الصراع ليتخذ طابعاً طائفياً مكشوفاً سيندفع كل طرف لمزيد من الاستنجاد بالخارج وسيصبح رهينة له وسيكون من الصعب تدهور سوريا نحو أسوأ السيناريوهات.
أم سيتم حل الصراع بفرض حل سياسي يسقط النظام القائم إسقاطاً شاملاً مع الحفاظ على مؤسسات الدولة وخاصة مؤسسة الجيش التي سيتم إعادة هيكلتها؟.
رغم المخاطر فثمة رأي بأنه حتى الآن ورغم التدخلات الأجنبية الكثيفة ‘المؤقتة’ يرجح أن لا تتدهور سوريا إلى مجموعات وقوى محلية متصارعة تتحكم بها قوى خارجية، فما جرى ويجري طارئ ولم يتجذر في الشخصية السورية التي تجذرت باعتدالها وبروحها الوطنية منذ قرون وقرون، وستعود هذه الروح للتعامل مع العالم بندية وبحسب المصالح وبقرار سوري، وستكون الظروف الحالية ظروفاً طارئةً فرضتها الضرورات وستزول بزوالها.
المخاوف مشروعة والمخاطر كثيرة وكبيرة ولكن وعي السوريين وإرادتهم وأفعالهم هي في النهاية ما سيحدد ما سيكون، وقيادات المعارضة المدنية والمسلحة، وخاصة الائتلاف الوطني هي من يتحمل المسؤولية حول مصير سوريا بعد إسقاط النظام.
‘ كاتب سوري
القدس العربي