صفحات العالم

سوريا والترياق المنتظر من العراق


عريب الرنتاوي

تثير التطورات المحيطة بـ”المسألة السورية” حيرة المراقبين للأزمة والفاعلين فيها على حد سواء…إذ كلما تصاعد دخان أبيض من “كوّة” الأزمة، لحق به وتداخل معه، طيف كثيف من الدخان الأسود…حتى أن ثعالب السياسة الدولية، باتوا يحاذرون في إعطاء نبوءات وتقديرات دقيقة، أو “مجدولة زمنياً” لسيناريوهات المستقبل…وفي التفاصيل، تشير معطيات الأيام القليلة الفائتة إلى ما يلي:

أولاً: إنحسار الانتفاضة الشعبية السورية في أطر أكثر ضيقاً من حيث الانتشار الجغرافي والمشاركة الجماهيرية…هنا يشار إلى حمص، بوصفها المعقل الأخير والأكثر نشاطاً، للانتفاضة…أما من حيث “أرقام” المشاركة الشعبية، فإن مصادر عدة تقدر معدل المشاركين في التظاهرات والاحتجاجات بما يتراوح ما بين 20 – 30 ألف مواطن في أيام الذروة (الجمع) وفي عموم الأراضي السورية، وهذا رقم متواضع بالحسابات السورية وحسابات “ربيع العرب” جميعها.

ثانياً: الانتفاضة الشعبية السورية، تنحو باتجاه العمل المسلح المنظم، حيث تنوب عناصر الجيش الحر وبعض الجماعات المسلحة، محل “الجمهور العريض” على خطوط التماس مع النظام، ولقد رصد مراقبون غربيون، بداية انضمام عناصر مدنية إلى صفوف هذا الجيش، باعتباره الوعاء الأبرز للثورة السورية…وهذا أمر يدعو للقلق على مصير الثورة السورية ومستقبلها، بصرف النظر عن الأسباب التي قادت إلى تفاقم هذا التوجه ونشوء هذه الظاهرة…وهذا ما دعا بـ”معارضة الخارج” إلى تركيز جهدها في الأسبوعين الأخيرين، لإعادة الحراك الشعبي إلى أدواته السلمية، من تظاهرات واعتصامات وعصيانات مدنية.

ثالثاً: فشل المعارضة السورية (الداخل والخارج) في توحيد صفوفها، برغم الجهود المضنية التي تبذلها الجامعة العربية وبعض الأطراف العربية والإقليمية والدولية، حيث يتبادل “المركزان” الرئيسان للمعارضة، المجلس الوطني وهيئة التنسيق، الخارج والداخل، الاتهامات بالمسؤولية عن الفشل، المجلس يرى في “حظوته” الدولية والعربية علامة تفوّق على “هيئة التنسيق” وهو يريد لمؤتمر المعارضة الجامع أن يكون إطاراً استشارياً، لا “ممثلاً شرعياً وحيداً” للشعب السوري، في حين تستند معارضة الداخل إلى سجل رموزها التاريخي الكفاحي العريق، في الحديث عن أهليتها وجدارتها وطابعها التمثيلي.

رابعاً: ثمة مواقف إقليمية ودولية تدفع باتجاه تكريس هذا الانقسام، الذي يخفي بدوره، انقساماً حول الرؤية لمستقبل الأزمة السورية وسبل حلها، فبعض الأطراف العربية الأكثر حماسة للمجلس، والتي تتمتع بنفوذ وازنٍ فيه، تضغط باتجاه عدم التجاوب مع مطالب “هيئة التنسيق” التي يبدو أنها تتمتع بهامش أوسع من “استقلالية القرار” عن المراكز العربية والإقليمية والدولية، وتحظى بثقة بعض الأطراف العربية والدولية أكثر من معارضة الخارج.

خامساً: لا يقف الانقسام في المواقف العربية والإقليمية والدولية عند هذا الحد، فهناك انقسام داخل الجامعة العربية ولجنتها الوزارية، حول طبيعة “الحوار” الجاري مع دمشق، ففي الوقت الذي تضغط فيه “الدول الناشطة” في الجامعة واللجنة، باتجاه وقف هذا الحوار وإعلان فشله وتحميل دمشق المسؤولية عن هذا الفشل، نرى دولاً عربية وازنة تاريخياً، كمصر والعراق والجزائر، تضغط باتجاه توسيع هوامش الحوار، والابتعاد عن لغة الإنذارات والتهديدات المشروطة بهوامش زمنية ضيقة للغاية.

سادساً: الموقف الدولي من الأزمة السورية ما زال على حاله، برغم التصعيد اللفظي الخطير الذي شهدناه مؤخراً بين دمشق من جهة وكل من واشنطن وباريس من جهة ثانية على خلفية المقابلة الصحفية الشهيرة التي أدلى بها الرئيس السوري لباربرا والترز…روسيا والصين، ومن خلفها البرازيل وجنوب أفريقيا والهند (تريد شراء النفط السوري)، تقف بقوة ضد “تدويل الملف السوري” وضد التدخل الأجنبي فيها، وتؤيد نموذج المبادرة الخليجية في التعامل مع الأزمة اليمنية على النموذج الليبي لحل الأزمة السورية…قائد قوات الحلف الأطلسي ما انفك يقطع الأيمان الغلاظ المؤكدة على عدم توفر نية لدى الحلف للتدخل في الأزمة السورية تحت أي غطاء مدني أو إنساني….فيلتمان أبلغ قوى 14 آذار بأن الإطاحة بالأسد عملية معقدة وطويلة نسبياً…والجدل بشأن عودة سفيري فرنسا والولايات المتحدة ما زال محتدماً بين من رأى فيها دلالة على “طول عمر النظام” ومن يرى أنها خطوة ضاغطة إضافية عليه…أما ساركوزي فغارق في لملمة أوراقه الانتخابية من ناحية، و”مهجوس” من ناحية ثانية في السعي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هياكل اليورو والاتحاد الأوروبي المترنح بأزماته…ولقد تلقى الزعيم الفرنسي رسالة دامية من جنوب لبنان أمس الأول، ستدفعه للتفكير في مواطئ أقدامه التالية، رغم تصريحاته “الشجاعة” عقب العملية في جنوب لبنان، والتي شدد فيها على أن بلاده لن “تخاف” أو “تُخوّف” بمثل هذه الاعتداءات على القوات الفرنسية في “اليونيفيل”.

عند تقاطع هذه الخطوط، انتقلت الأنظار إلى العراق “المأزوم”، علّه يوفر مخرجاً من الأزمة…فالعراق من موقعه المؤيد للنظام السوري وغير المنقطع عن المعارضة السورية، يسعى في “بذل” مساعيه الحميدة لإنفاذ المبادرة العربية، وهو يجد في مسعاه هذا تأييداً من قبل نبيل العربي ووزراء خارجية عدد من الدول العربية، والمؤكد أنه يحظى بضوء أخضر إيراني كذلك… في الوقت الذي تبدو فيه المقاربة التركية للملف السوري مترددة وشديدة الارتباك، خصوصاً في ظل المؤشرات المتناقضة التي تصدر عن أنقرة، والتي تراوح بين التهديد والوعيد من جهة، وما يقال أنه “تنسيق من تحت الطاولة” مع نظام الأسد، في الحقل الأمني بخاصة، من جهة ثانية…خيارات تركيا تبدو جميعها صعبة للغاية، والعقوبات التي فرضتها على دمشق سلاح ذي حدين، خاصة فالطريق العراقي للتجارة التركية مع العالم العربي (33 مليار دولار)، مكلف وطويل وسيظل تحت رحمة حلفاء دمشق العراقيين والإقليميين…ناهيكم عن مخاطر اللعب بورقة تسليح المعارضة السورية التي ستقابلها ورقة تسليح المعارضة الكردية، ولقد سبق لأنقرة وأن تلقت رسائل دامية بهذا المعنى…ثم أن غياب رئيس الوزراء التركي عن المشهد لأسباب يقال أنها صحية، وما يثيره الموقف التركي من جدل داخلي، سوف يضيف تعقيدات إضافية على المشهد السوري كما يُرى من أنقرة.

هل ستلعب هذه التطورات لصالح نظام الأسد؟…هل ستعيد هذه المتغيرات الاعتبار للمقاربات السياسية لحل الأزمة السورية؟…هل ستعزز هذه التطوارت مواقف مواقع معارضة الداخل على حساب صقور معارضة الخارج؟…هل ستدفع هذه التطورات ببعض الدول العربية الأكثر حماساً للتغير في سوريا، للتواضع في مواقفها ومطالباتها؟…أم أننا سنشهد تصعيداً جديداً فيما يشبه “الهجوم المضاد” في قادمات الأيام؟، وأين ستكون ميادينه وساحاته، وكيف ستكون أدواته ومن هم اللاعبين الأكثر تأثيراً فيه؟…أسئلة مفتوحة، تنضاف إلى تساؤلات الملف السوري المفتوح على شتى الاحتمالات والمفاجآت؟.

*نقلا عن “الدستور” الأردنية

الدستور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى