سوريا والعراق وما بينهما من إيران
هوشنك بروكا
سوريا، منذ حكم الأسد الأول، اختارت لنفسها موقع “المقاومة” عبر أكثر من جيب لها في دول الجوار، وأن تمشي في مسيرة “مقاومتها” هذه، خلف إيران، “لمواجهة الشيطانين الأكبر والأصغر”، كلما اقتضت الحاجة إلى أن “تقاوم”.
هي، إذن، منذ أكثر من أربعين عاماً من حكم الأسدين الأب والإبن، لا تخفي ولاءها لإيران وتحالفها الأكثر من إستراتيجي معها، في أكثر من ملف، وعلى أكثر من صعيد، سواء على مستوى سياستها في الداخل، أو في الخارج.
هي خبرت منذ عقودٍ من اللعب الخارجي، بمصائر الآخرين والمقامرة على قضاياهم المحاصرة في جيوبها وحدائقها الخلفية، وتعلمت من “كيسهم” كيف تبيع للعرب وجامعتهم، من فلسطين إلى لبنان وصولاً إلى العراق، الوطنيات والشعارات الخارجة على كلّ الوطن، وما بينها من “عروبةٍ ميتة”، لا تغني ولا تسمن، ولا تسد للشعوب العربية جوعاً، ولا تبلّ لهم ريقاً.
أما مع إيران الأكثر من صديقة، فعرفت “سوريا الأسد” كيف تصبح في المنطقة الجالسة على برميل بارود، “لاعباً تحت الطلب”، يحسب لها ألف حساب وحساب.
بعد دخول الثورة السورية شهرها العاشر، ثبت للكل في الداخل والخارج، وللداني والقاصي، أنّ إيران وأحزابها وملوك طوائفها “الإلهية”، التي كانت في مصر الثورة وأخواتها، ثوريةً أكثر من الثوار أنفسهم، ليست هي إيران نفسها في سوريا الثورة المشتعلة منذ الخامس عشر من آذار الماضي.
فهي هناك مشت مع الثورة وصفقت و”توسطت” لها عند الله لتعبر إلى انتصارها “الإلهي”، أما هنا فسدّت الطريق أمامها، وأفتت عن طريق “آياتها العظمى” ب”إهدار” دم الثوار الذين وصفتهم ب”العصابات المسلحة”، ودعمت قتلة الثورة بالمال والسلاح والسياسة والديبلوماسية وما تسنى لها من دينٍ وفتاوى، ولا تزال.
نظام الأسد بالنسبة لإيران ليس مجرد حليف في المنطقة، وإنما هو “قضية وجود أو لا وجود”، لإن قوة وجود إيران في المنطقة، هو من قوة النظام السوري، ووجودها في “مقاومة الشيطانين الأكبر والأصغر”، هو من وجوده. من هنا ستبذل إيران كلّ ما في وسعها من أجل إنقاذ الأسد ونظامه من السقوط، الذي إن حصل سيكون مكلفاً ليس على الأسد وآله فحسب، وإنما عليها، وعلى “هلالها الشيعي”، وملاليها وفقهائها أيضاً. إيران لن تسمح للعالم أن يسقط الأسد ونظامه، هكذا سهلاً، بدون تكاليف باهظة، سيدفع شعوب المنطقة فاتورتها، من دم أبنائها، ولقمة عيشها، وأمن أوطانها، واستقرارها، وتطورها.
الزلزال الذي هددّ به الأسد العالم، هو “صنيع إيراني” تحت الطلب، ليس على الأسد وأخوانه من “جمهورية حزب الله اللبناني” إلى “جمهورية المالكي الشيعية”، على الطريقة الإيرانية، إلا أن ينفذوه، في “المكان والزمان المناسبين”.
ما شهدناه وسمعناه طيلة الأشهر العشر الدموية الماضية، من خطابات نارية ل”سيد المقاومة” الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصرالله، الذي هددّ فيها ب”قطع” كلّ يدٍ تطال النظام السوري “المقاوم”، إضافةً لما مارسه العراق وديبلوماسيته، في المحافل الدولية والعربية، من صمتٍ رسمي قاتل، تجاه ثورة الجار السوري، ودعمه الفاضح وعلى المكشوف لنظام الأسد، على أكثر من مستوىً وصعيد، كلّ هذا الإصطفاف الطائفي المكشوف وراء النظام السوري، والذي هو بعض غيضٍ من فيض، إن دلّ على شيءٍ فهو يدلّ على أنّ قادم سوريا بات على كفّ أكثر من عفريت، وعلى شفا حربٍ أهلية، ستطال نيرانها الجميع، لأنها ستكون حرب “الكل ضد الكل”، حسب توصيف توماس هوبز(1588ـ1679)، أحد أكبر مؤسسي الفلسفة السياسية الحديثة، وصاحب النظرية الأشهر في تاريخ هذه الفلسفة: “الدولةـ التنين/الليفياثان”(1651).
الأزمة السياسية الأخيرة التي عصفت بالعراق بعيد انسحاب آخر جندي للقوات الأميركية منه، والتي قد تصيب العملية السياسية وتوافق الأفرقاء السياسيين العراقيين، في أكثر من مقتلٍ، لا شكّ أنّ لها أسبابها وعواملها الداخلية(الطائفية بالدرجة الأولى)، إلا أنّ خراب الداخل العراقي الطائفي بإمتياز، لا يعني براءة الخارج مما حدث ويحدث، من صناعة الخراب والقتل والإرهاب خلال السنوات التسع الأخيرة، بعد سقوط نظام صدام حسين، من عمر العراق.
أزمة نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي، المتهم بحسب رئيس الوزراء نوري المالكي، ب”الإشراف على فرق الموت”، رغم كونها قضيةً داخلية متشابكة، لم تكشف تفاصيلها بعد، إلا أنّ الواضح من توقيتها، وطريقة شحنها الإعلامي غير المسبوق في تاريخ العملية السياسية في العراق، وخروجها عن كلّ ما يمكن تسميته بالإيتيكيت السياسي والديبلوماسي، كلّ ذلك يدلّ على أنّ اللعبة، بغض الطرف عن صحة الإتهام من عدمه، أكبر من العراق، وأن خيوطها التي تتجاوز حدوده، هي ليست في بغداد بيد المالكي، بقدر ما أنها في طهران بيد إيران.
قبل الهاشمي، كانت هناك شخصيات عراقية كبيرة، متهمة ب”دعم الإرهاب”، و”دعم فلول حزب البعث”، وما إلى ذلك من اتهامات. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان صالح المطلك، نائب رئيس الوزراء العراقي الحالي، ممنوعاً من المشاركة في الانتخابات العراقية الأخيرة، بسبب شموله بقانون المساءلة والعدالة الخاص بحظر عمل مسؤولي حزب البعث المنحل، إلا ان صفقة سياسية بين الأفرقاء العراقيين المشاركين في الحكومة الحالية، سمحت له بتسلم هذا المنصب.
الآن، بعد احتدام الصراع بين كتلة “دولة القانون” التي يقودها المالكي وائتلاف “العراقية” بقيادة إياد علاوي، على إثر قضية “إرهاب” الهاشمي، يخرج المالكي على العراقيين، مطالباً برلمانهم ب”سحب الثقة” من المطلك “الممنوع من الإعراب” في السياسة العراقية سابقاً، ونائبه لاحقاً، بعدما وصفه الأخير ب”انه ديكتاتور أسوأ من صدام حسين”.
قضية الهاشمي، أياً تكن أسبابها الداخلية وملابساتها وخلفياتها الكيدية الطائفية، إلا أنها تبقى قضية لها علاقة بما يحدث الآن خارج العراق، وتحديداً في سوريا. تصريحات الهاشمي التي قال فيها ب”أنّ موقفه من إيران وسوريا وثورتها، هو وراء استهدافه من المالكي”، تؤكد، بغض الطرف عن إثبات التهم الموجهة إليه من عدمه، أن خيوط اللعبة الطائفية تتجاوز حدود العراق إلى “الهلال الشيعي” الممتد من إيران إلى لبنان مروراً بسوريا.
هذه التصريحات التي تعبّر في المنتهى عن إصطفافات مبيتة عابرة للحدود(“الإصطفاف السني” ضد الإصطفاف الشيعي)، تعكس جانباً كبيراً من حقيقة الصراع الطائفي الراهن والقادم، الذي سيكون في المنتهى، صراعاً عابراً للأوطان والقوميات، بين مشروعين متناحرين متقاتلين: “المشروع الشيعي” بقيادة إيران، و”المشروع السني” بقيادة السعودية وقطر وتركيا.
تبني دول مجلس التعاون الخليجي في قمته العادية الأخيرة في الرياض اقتراح الملك عبدالله ب”الإنتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الإتحاد لمواجهة التحديات”، هي خطوة في هذا الإتجاه، لمواجهة الخطر الإيراني و”هلالها الشيعي” الذي بات يهدد “القمر السني” والمنطقة برمتها.
التفجيرات الأخيرة التي طالت بغداد أمس، وانتقلت بالوتيرة ذاتها، والسلوك الشنيع ذاته، إلى دمشق اليوم، لتحصد حياة العشرات من المدنيين الأبرياء، تصبّ هي الأخرى في مجرى ذات الصراع بين المشروعين المتبارزين، وذات “البراكسيس الإرهابي”.
ليس من باب المصادفة بالطبع أن تسبق “القاعدة”(المسجلة هنا بماركة سورية) فريق مراقبي الجامعة العربية، لتقوم “خلاياه اليقظة” بعد وصوله إلى دمشق بساعات، بتفجيرين إنتحاريين، يستهدفان مقرّين أمنيين، مما أسفر عن مقتل وإصابة العشرات أغلبهم من المدنيين، ليخرج علينا الإعلام السوري الرسمي، بعد التفجير بدقائق بإنه قد تمّ القبض على أحد المتورطين “القاعديين” في التفجيرين!
الرسالة هنا، لمن خبر سلوك النظام السوري، وعقليته المخابراتية، واضحة، لا تحتاج إلى كثير شرحٍ. “سوريا الأسد”، تريد أن تقول للعالم من خلال فريق الجامعة العربية، بأن “سوريا مستهدفة من قبل الجماعات السنية الإرهابية، التي تسعى إلى تحويل البلد إلى إمارات سلفية، ومن يستهدف الدولة يُستهدف، ومن يريد قتل الدولة ومؤسساتها لا بدّ أن يُقتل. نقطة أول السطر.”
هكذا..وهكذا فقط، على سُنة هذه “المؤامرة الدولية”، يمكن أن يذهب النظام الذي قتل حتى الآن أكثر من 5 آلاف من المدنيين، وجرح واعتقل وعذّب وغيّب عشرات الألاف من السوريين الأبرياء، إلى “براءته” المفترضة.
تلك هي “نظرية المؤامرة” السورية، التي ركبها النظام منذ الأول من الثورة السورية، حتى اللحظة.
ما يهمّ النظام، هو أن يجعل من كذبته الكبيرة هذه، “حقيقة كبيرة” وذلك على الطريقة النازية المعروفة: “أكذب أكذب أكذب حتى يصدقك العالم!”
هكذا يكرر النظام السوري، الفعل النازي، على طريقته الخاصة، بإمتياز، الذي يقتل شعبه منذ حوالي عشرة أشهر، ثم يقتل، ثم يقتل حتى يصدقه العالم!
ما كان في سوريا، هو ذاته الذي يكون الآن في العراق، وما يكون في إيران هو ذاته الذي يجب أن يكون وسيكون في العراق وسوريا وما حولهما من جيوب إيرانية “إلهية”. فما بين البلدين “العربيين” المختزلين الآن في الطائفة، من “هلالٍ شيعي حي”، هو أكبر بكثير، مما بينهما من “عروبةٍ ميتة”.