صفحات سورية

سوريا وانسداد الأفق


د. رياض نعسان أغا

أخطر ما في القضية السورية اليوم، هو انسداد الأفق السياسي أمام كل الحلول، فلا توجد نافذة ضوء في آخر النفق المظلم الذي تمضي إليه الأحداث، ولا جديد كل يوم سوى المزيد من الضحايا والدمار، وليس مهماً في هذه اللحظة القاتلة والمقتولة أن ينشغل المتحاورون بتبادل الاتهامات، وتحديد المسؤوليات، فالأسئلة الساخنة التي يجب أن يتداعى الجميع إلى الإجابة السريعة عنها، هي متى سينتهي هذا الدمار اليومي؟ ومتى سيتوقف القتل الذي جعل الموت قاعدة والحياة استثناء ومصادفة؟ ومتى سيجد مئات الآلاف من السوريين المشردين مأوى قبل أن يأتي شتاء آخر، وهم يعانون البرد والجوع والمهانة حتى فيما ينقل من أخبار حاجتهم إلى المساعدات، وهم من أعز شعوب الأرض على مر التاريخ، وهم الذين احتضنوا شعوباً أخرى وأفاضوا بالحب على كل من لجأ إليهم، وجعلوه سوريّاً مثلهم؟ وحسب البشرية أن تعلم أن دمشق هي العاصمة الوحيدة في المنطقة التي تطلق اسم (المهاجرين) على أشهر أحيائها، وسوريا على مر حضاراتها كانت تفتح ذراعيها لكل من يبحث عن أمن ومستقر، وتفرش له الأهداب، وتحنو عليه حنو الأمهات، ولكنها اليوم وللمرة الأولى في تاريخها المديد عبر عشرة آلاف عام ونيف مما نعرف، نرى شعبها يضرب في العراء باحثاً عن مكان آمن يحمي أطفاله ونساءه من خطر الموت تحت الأنقاض، إنها لحظة الجنون المستعرة التي تدمر كل ما بناه السوريون عبر تاريخهم.

ولقد تحولت سوريا إلى ساحة صراعات دولية، وكل يبحث عن مصالحه، وينسى أو يتجاهل مصالح الشعب الذي بات يتيماً لا يكاد يجد سوى النوايا الطيبة، والمشاعر المتعاطفة، ويبدو مخجلاً أن تشكو دول عجزها عن تقديم عون جاد، أو أن تضيق بمن يفدون إليها هاربين من القتل والتدمير. ومع تقديرنا لما تم تقديمه من بعض الدول الصديقة والشقيقة، إلا أن الوضع الإنساني المريع يحتاج إلى بذل أكبر وعلاج أشمل، ولابد من حلول لمشكلة توقف التعليم لعامين دراسيين متتاليين، فهذا التوقف ينذر بضياع أجيال من الطلاب سينقطعون عن متابعة التعلم، ويضيع مستقبلهم في المجهول.

إننا ندرك أن المتطلبات شاقة، ولكن المجتمع الدولي قادر على توفير حدود مقبولة من الدعم الإنساني لو أنه واجه مسؤولياته بعناية أكثر جدية.

والخطر اليوم أن تتحول الصراعات الدبلوماسية الدولية إلى حروب ومواجهات تنخرط فيها بعض الدول وتكون مدن سوريا ميدان مزيد من القصف والدمار، ولابد من وضع حد لما يحدث من تصعيد عسكري قبل أن ينفلت زمام المبادرات الدولية الباحثة عن حلول سياسية، وتنشب حرب إقليمية تدمر ما تبقى من الحياة في سوريا.

ولئن كانت تركيا مرشحة للغوص في المستنقع السوري الراهن، فإن من يجدون في الموقف التركي نصيراً لن يسعدهم أن يروا الجيش التركي يخوض حرباً ضد بلادهم، كما أنهم لا يريدون أن يروا ضحايا أتراك ولاسيما بعد أن تغنى السوريون على مدى السنوات العشر الماضية بالعلاقات السورية التركية التي كانت موضع تفاؤل كبير من قبل الشعبين الصديقين.

وعلى رغم كل الفواجع التي يعانيها الشعب السوري، وانسداد الآفاق أمام كل الجهود الدولية، فإن الحلول العسكرية الراهنة لن تفتح الآفاق، ولن تجلب إلا مزيداً من الدمار، ولابد من مبادرات دولية قوية عبر إجماع في مجلس الأمن تفتح نوافذ أمل أمام الملايين من المعذبين الذين باتوا في مواجهة المجهول، وحديث السوريين اليومي يتساءل كل لحظة عن موعد الخلاص، وهم يغرقون في بحار من الدماء. ومن ينظر إلى الدمار الذي يحدث في المدن السورية خلال الأسبوع الماضي وحده، كما حدث في حلب يدرك حجم الفاجعة، لقد دمر أشهر أحياء حلب المسمى (المدينة) وهو روح حلب ورئتها التجارية، وهو جزء مهم من التراث الإنساني المسجل على لائحة اليونيسكو، حيث يعود تاريخه إلى ألفين وأربعمائة عام. كما دمرت ساحة حلب الشهيرة التي تحمل اسم المناضل الوطني سعد الله الجابري التي كانت تشهد أفراح المدينة واحتفالاتها، وصار الفندق السياحي الذي كان أحد معالم البناء الجديد في حلب خراباً، فضلاً عن العديد من المواقع والبنى الأثرية التي خسرتها الإنسانية. ومثل هذا السلوك يعبر عن حالة الجنون الكبرى التي تبدو مرشحة لتدمير سوريا كلها. والإشارة إلى المواقع الأثرية لا تعني أنها أغلى علينا من البشر الذين يموتون تحت الأنقاض، فقطرة دم من أي طفل سوري أغلى من كل ما نملك، لكن الإشارة إلى المواقع المهمة التي يتم تدميرها تعني المشترك الحضاري العالمي كله.

لقد عمت الفوضى في سوريا، واختلط الحابل بالنابل، ودخلت عوامل جديدة، ظهرت من خلال أفكار متطرفة بدأت تنمو على الضفتين، وانعكس ذلك على الأداء السياسي العالمي في توصيف ما يحدث، ولم يعد المتصارعون فريقين واضحين، هما النظام والمعارضة، فهناك من باتت تحركهم ردة الفعل أكثر مما يحركهم الفعل ذاته فإذا هم يخرجون على كل الحدود، وبعضهم تحول عن مطالبه المشروعة إلى مطالب خارجة عن المنطق والمقبول في دعوات الإلغاء والإقصاء والتهديد والوعيد أو استحضار عُقد التاريخ ومصائبه. وفوق ذلك كله انتشرت عصابات السرقة، ووجد العابثون في الفوضى العارمة فرصة لثراء سريع عبر إرهاب الناس وخطفهم وتهديدهم.

وإذا كانت بعض الدول الكبرى في العالم تريد أن ترى سوريا مدمرة فترتاح من عناد الشعب السوري تاريخياً ومن إصراره على التمسك بحقوقه، ومن تعلقه بمبدأ المقاومة ورفضه تقديم تنازلات لإسرائيل، وهي تعلم أن هذا هو موقف الشعب، وهو اليوم مهدد بدمار بلده دون أن يتحمل أعداؤه أية مسؤولية عما يحل به، وهي غير معنية بإنقاذه، ولعلها تريد أن ينشغل على مر العقود القادمة بمآسي إعادة الإعمار، وترميم الاقتصاد وشق طريق جديدة لمساره السياسي، فإنها تخطئ في حساباتها، لأن تداعيات الدمار ستمتد إلى مواقع أبعد، وستجعل المنطقة كلها جاثية على فوهة بركان، ولن يتنازل الشعب السوري يوماً عن ثوابته ومبادئه، ولن يركع للظلم والهوان، وهو اليوم يقدم أمثولة في الصبر وتحمل الفواجع، والإصرار على الانتصار.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى