سوريا وخطر الانزلاق إلى حرب أهلية
أكرم البني
تواترت المخاوف والتحذيرات التي وردت على لسان أكثر من مسؤول غربي من مخاطر ذهاب الحالة السورية إلى حرب أهلية، وآخرها تصريح المفوضة العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بأن الحرب الأهلية قائمة الآن في سوريا بعدما تجاوز عدد القتلى 4000 شخص.
ومع تواترها بدأت تتبلور في الأوساط السياسية والثقافية وجهتا نظر حول الموقف من هذه المخاوف والتطورات وحول الإجابة على حزمة من التساؤلات المحايثة، هل تقف سوريا حقا على مشارف حرب أهلية، ما أسبابها ومن هي أطرافها، وما العوامل الموضوعية والأدوار الذاتية التي يمكن أن تقي البلاد من خطر الانزلاق نحو هذا المصير؟
هناك من لا يأخذ هذه التحذيرات على محمل الجد، ويعتبر أن مقومات الحرب الأهلية وعناصر اندلاعها غير متوافرة في سوريا، ويرى الحديث عنها مجرد تهويل ربما غرضه تبادل الضغوط والابتزاز، وإذ يعترف أصحاب هذا الرأي بتصاعد بعض وجوه العنف والعنف المضاد وما خلفه ذلك من أذى اجتماعي وإنساني واهتزاز للاستقرار الأمني في بعض مناطق التوتر والاحتقان، لكن الأمور لم ولن تصل برأيهم إلى مرحلة الحرب الأهلية.
إن اختيار السلمية طريقا رئيسا للاحتجاجات ضد نظام الحكم، والإصرار عليها طيلة تسعة أشهر، رغم القمع العاري والتنكيل الوحشي، يدل على وعي متأصل لدى السوريين بمخاطر الانزلاق إلى حرب أهلية، ليس فقط بسبب ذاكرتهم المشبعة بصور المآسي والآلام التي تكبدها الشعبان اللبناني والعراقي وأخيرا الليبي جراء الاقتتال الأهلي، أو بسبب ما ذاقوه من مرارة الصراع بين النظام والإخوان المسلمين زمن الثمانينيات، وما خلفه من نتائج مؤلمة لا يمكن أن تنسى، وإنما أيضا جراء التفافهم المزمن حول مهام وطنية وقومية عريضة تركت آثارا إيجابية على تضامنهم ووحدتهم واندماجهم، فأضعفت من جهة البنى العصبوية التقليدية وإمكانية تبلورها في مشاريع سياسية خاصة، كما ساعدت من جهة ثانية في تمكين بناء دولة وطنية جامعة نأت، رغم ما شابها من تشوهات واحتكار للسلطة، عن المحاصصة المتخلفة.
والأوضح أن الأحزاب المتنوعة قوميا، عربية أو كردية أو آشورية، أو المتنوعة سياسيا، ليبرالية أو إسلامية أو قومية، أثبتت في تاريخها الحديث حرصها الوطني وانتماءها إلى جماعة واحدة في مواجهة ما تعرضت له البلاد من المحن والنكبات.
هذا إلى جانب أن المجتمع السوري لا يملك رصيدا تاريخيا من الأحقاد والمواجهات الحادة بين مكوناته يستحق التوظيف والاستثمار، وأن البنية النفسية للشعب السوري تميل عموما نحو التوافق والتسامح والتعايش، في ظل تداخل جغرافي مذهل بين مكوناته المختلفة، العرقية والدينية والمذهبية، وندرة وجود معازل أو أماكن نقية تحسب على طرف دون آخر.
ونضيف أن الجماعات السورية ذات المنابت المتنوعة هي جماعات غير موحدة سياسيا أو ثقافيا، بل تفرقها اجتهادات ومصالح متنوعة كما انتماءاتها المختلفة، إلى أطر سياسية، قومية أو ليبرالية أو شيوعية أو غيرها، وإذ لا يستند النظام إلى جماعة منفردة تعضده وتدعمه فليس للمتظاهرين والمحتجين جماعة واحدة، بدليل أن الانتفاضة الشعبية تنطوي على تنوع وتعددية لافتين.
فإلى جانب العرب والأكراد، هناك مشاركات متفاوتة تبعا لكل منطقة من مختلف الطوائف والمذاهب، والأهم أنه غلبت على هتافات المحتجين الشعارات المناهضة للطائفية وإعلاء قيم المواطنة وأسس العيش المشترك!
ولعل ما يعزز ثقة هؤلاء بوجهة نظرهم أنهم يجدون أن خيار الحرب الأهلية في سوريا وانفلات الوضع إلى الفوضى الأمنية الشاملة هو أمر مرفوض عند غالبية الأطراف العربية والدولية، لأنه سيكون مكلفا ومؤثرا على الاستقرار السياسي ودول الجوار، خاصة إسرائيل، بسبب حساسية موقع النظام السوري وخصوصية تحالفاته ودوره المتشابك مع الكثير من الملفات الشائكة والخطرة في المنطقة!
في المقابل، هناك من يشارك قادة الغرب تخوفاتهم ويرجح انتقال الاستعصاء المزمن للأزمة السورية إلى اقتتال أهلي، ويضع كامل المسؤولية على عاتق أهل الحكم، بسبب شدة القمع المطبق وإطلاق اليد لاستخدام أشنع وسائل القهر والتنكيل طلبا للحسم ونتيجة إصرارهم على الخيار الأمني والعسكري واستهانتهم بالمعالجات السياسية وبالدعوات المتعددة للبدء بإصلاحات جدية ترضي المحتجين وتخفف حدة التوتر والاحتقان.
وبين أصحاب هذا الرأي من يذهب في موقفه بعيدا إلى حد اتهام النظام بأنه يسعى بصورة إرادية ومخططة لتوفير شروط اندلاع حرب أهلية، بصفتها الخيار الأخير الذي يمكن الرهان عليه لإخراجه من دوامة ما هو فيه.
ويجد هؤلاء أن النظام الذي يرفض الحلول السياسية ويصر على إنكار مطالب الناس وإظهارهم كأدوات تآمرية وطائفية، هو الذي يؤجج التعصب لدى الآخرين ويجبرهم على اعتماد منطق العنف والغلبة، وصولا إلى احتقار السياسة واستخدام أساليب القوة نفسها لنبذ الآخر وإقصائه، وهو النظام الذي سوف يفعل كل ما بوسعه لدفع الأمور نحو العسكرة، عبر شحن الغرائز والانفعالات وتشجيع العصبيات وتأجيج ردود الأفعال الثأرية وتغذية ما يمكن من صراعات متخلفة، واستيلاد القوى المتطرفة وسربلتها بسربال السلفية أو ربطها بتنظيم القاعدة، لحقن المجتمع بالمخاوف والشكوك والإيحاء للعالم بأن نزاعا أهليا على وشك أن يندلع.
وبعبارة أخرى يعتقد أصحاب هذا الرأي أن هذا النوع من الأنظمة لن يتوانى عن جر البلاد كلها إلى الخراب والاقتتال من أجل استمرار امتيازاته وبقائه في السلطة، يعزز هذا الخيار شخصيات فاسدة ومرتبكة، لا مخرج لها سوى التعويل على حرب أهلية تفضي إلى خلط الأوراق وتضييع الحدود والتخوم بما يوفر شروط الإفلات من المحاسبة والعقاب.
ويجد هؤلاء أن ما يساعد هذه القوى في تحقيق هدفها هو تنامي شعور لدى المحتجين بعدم جدوى المظاهرات على اتساعها في هز أركان النظام وتفكيك لحمته الأمنية والعسكرية وتحديدا بروز مواقف جديدة تعلن إفلاس النزعة السلمية واستحالة إسقاط السلطة بغير القوة والعنف، وبرأيهم ما كان لهذه المواقف أن تظهر بهذه السرعة لولا التغيرات التي حصلت في قيادة الانتفاضة، حيث طال القمع والقتل والاعتقال عددا غير قليل من الكوادر القديمة التي تولت تنظيم الاحتجاجات في مراحلها الأولى، لتتقدم الصفوف عناصر أكثر شبابا وحماسا لكنها أقل عمرا وتجربة ووعيا، وأكثر عرضة للاستفزاز والانفعال.
وأيضا ما كان لهذه المواقف أن تتعزز لولا ضعف وتباطؤ ردود أفعال الدول العربية والغربية التي منحت النظام السوري المهلة تلو المهلة وتأخرت كثيرا في إعلان موقف قاطع وحاسم منه! وأيضا لولا استمرار الموقف السلبي أو المتردد لقطاعات هامة من المجتمع السوري، التي لا تزال خائفة لأسباب عديدة ومحجمة عن الانخراط في عملية التغيير وتستسلم لتشويش ومبالغات مغرضة في قراءة أحوال الانتفاضة الشعبية الناهضة ومآلها، وهو ما يفقد المحتجين بعض صبرهم، ويساهم في عزلهم والاستفراد في قمعهم ويطيل تاليا فترة المخاض ومعاناتها وآلامها.
وبين هذا الرأي وذاك لا بد أن نعترف بأن ثمة مستجدات حصلت في المشهد السوري، وهي بالفعل مؤشرات ذات قيمة ربما استند إليها كل من حذر من احتمال ذهاب البلاد إلى نزاع أهلي، أهمها تنامي مظاهر العسكرة، وفي اتجاهين، أولهما الانشقاقات المتواترة داخل القوى العسكرية وتشكيل ما سمي جيش سوريا الحر، وثانيهما لجوء بعض الجماعات الأهلية إلى السلاح بداية لحماية المتظاهرين ثم للرد على محاولات اقتحام المناطق والأحياء.
وما رشح إلى الآن أن ثمة حالات من الخطف والاعتقال وتبادلا للمعتقلين قد حصلت وأن عمليات قتل وانتقام قد حدثت، ولا يغير هذه النتيجة المأساوية أن يأتي أغلب هذه الأفعال ردا على القمع والتنكيل أو لاضطرار بعض المنشقين من الجيش استخدام سلاحهم دفاعا عن أنفسهم وهربا من موت شبه محقق في حال اعتقالهم، مثلما لا يخفف من وطأتها أن تبقى محلية الطابع وتقتصر على أماكن محددة ردا على ما تعرضت له من ترويع، أو لأنها لا تساوي نقطة في بحر مشهد العنف الدامي الذي تقوم به أجهزة السلطة وترك وراءه عشرات الآلاف من الضحايا والمعتقلين والمشردين فضلا عن أضرار مادية وإنسانية فادحة، حيث إن هذه المستجدات تنذر وللأسف في حال استمراره واتساعه ببدء إخلاء الميدان السلمي لنزعات العسكرة والسلاح، وتاليا تضييع أهداف الانتفاضة في الحرية والكرامة أمام تقدم هدف الرد على العنف بمزيد من العنف وتحويل لغة القوة إلى سياسة وحيدة تجب ما قبلها لتفلت الأمور تدريجيا وتذهب نحو اقتتال أهلي سيأخذ على الأرجح في الخصوصية السورية طابعا طائفيا ومذهبيا ويحرق في طريقه الأخضر واليابس.
الحرب الأهلية تعني وببساطة اقتتالا يصل حد الاستئصال والإفناء بين جماعات مختلفة من الناس في البلد الواحد، ودوافع الصراع متنوعة منها القومية ومنها الطائفية أو المذهبية ومنها القبلية وغالبا مزيج من كل ذلك، وينشب ما أن تعجز الوسائل السياسية والسلمية عن معالجة أسباب الخلافات ربطا بإصرار أطرافها أو أحدهم على الأقل على منطق القوة والعنف والغلبة طلبا للحسم.
وطبعا كلما اشتد أوارها اندفعت الاصطفافات إلى مزيد من التخندق وتقلصت المساحات الحيادية، وجر المجتمع جرا نحو مسار خطير جوهره العمل على التفكيك التدريجي لمقومات الحياة المشتركة وتحطيم معايير المصلحة الوطنية الجامعة، لتصل هذه الحرب بفظاعتها وبما تكرسه من البغضاء وباستباحتها لأبسط القوانين والأعراف الإنسانية إلى تدمير المجتمع ومستقبل أطفال أبرياء كانوا ينتظرون من آبائهم المتقاتلين وعدا وأملا بغد أفضل!
لم يخل تاريخ المجتمعات البشرية من الحروب الأهلية بما فيها أرقاها اليوم وأكثرها ديمقراطية قبل أن تكتشف أن طريق الاقتتال والإقصاء ورفض الآخر هي طريق لا أفق لها، مليئة بالآلام ومدمرة، لكن بإمكان أي مجتمع إذا استشعر مواطنوه بدنو هذا الخطر أن يفعل الكثير لتجنب هذه الكأس، ربما عبر البدء بمسألة بسيطة عنوانها عدم الاستسلام لما يجري ورفع الصوت عاليا ضد العنف وأساليب القمع والتنكيل في إدارة الأزمة كما العمل على خلق أي مستوى من مستويات التواصل لمحاصرة الانفلات والاندفاعات العمياء ونبذ التفرقة والتفكيك والحقن والتوتير.
والأهم تشجيع المبادرات لتشكيل لجان أهلية مناهضة للعنف والاقتتال والطائفية، كما حصل في بعض المناطق والأحياء المختلطة، تغذي الحاجة والاستعداد لتقديم التنازلات وبناء التوافقات وتعزيز أسس التعايش والتسامح والتكافل والمساعدة على حماية أرواح الجميع وممتلكاتهم وتخفف نوازع التنافر والنزوح الطائفي!
وبعبارة أخرى فإن الاقتتال الأهلي واللجوء إلى العنف والعنف المضاد بكل أشكاله وأدواته هو ظاهرة خطيرة تصيب الكيانات البشرية، فتمزق أواصرها، وتعمق شروخها، وتفضي في حال استحوذت على الفضاء السياسي إلى عسكرة الحياة وتحويل فئات المجتمع إلى ما يشبه الجيوش المعبأة والمتصارعة، خالقة حواجز نفسية حادة بين أبناء الوطن الواحد، ومسهلة انتهاك أبسط حقوقهم.
والأهم هو الإجهاز على مشروع التغيير الديمقراطي من أساسه، الأمر الذي يتطلب الحذر من الوقوع في هذا الفخ وإعادة الاعتبار لأهمية النضال السلمي ليس فقط كضرورة حيوية لنجاح الانتفاضة السورية، وإنما أيضا للمحافظة على تفوقها الأخلاقي!
الجزيرة نت