سوريا وسياسة السلطة بأي ثمن
علي جرادات
الإصرار على الاستمرار في السلطة بالقمع، والاندفاع إلى انتزاعها بالتدخل الأجنبي، وجهان لعقلية سياسية واحدة، اسمها الاستحواذ على السلطة بأي ثمن، حتى لو كان تقتيل الشعب وتفشيل الدولة وتفتيت نسيجها الوطني وتمزيقه إلى شظايا طائفية ومذهبية وإثنية وجهوية متصارعة ومتحاربة . تحيل هذه العقلية بوجهيها، بمعزل عن اختلاف النوايا والتبريرات والذرائع، إلى ثقافة سياسية استبدادية عتيقة، تجاوزها العصر،لا ترى في الشعب مصدراً ومرجعاً للسلطة، بل، تقصيه وتستبدل حكامه به، وتختزل خياراته بخياراتهم، وتحول دون ممارسته لحقه السيادي في اختيارهم ومراقبتهم ومساءلتهم . وقد شكل اعتماد النظام العراقي السابق ومعارضيه لهذه الثقافة السياسية، العامل الداخلي المساعد لتدمير العراق، حيث اتخذت الولايات المتحدة وحلفاؤها من الطابع القمعي لسلطة النظام، ذريعة للتدخل في شؤونه، واتخذت من اندفاع معارضيه إلى طلب التدخل الأجنبي سبيلاً لإطاحته وانتزاع السلطة منه، غطاء، استعملته أداة لتنفيذ سياسة “الفوضى الخلاقة”، وتدمير العراق، دولة واستقلالاً وسيادة وكياناً ودوراً، ليغرق، منذ احتلاله، في كل ما عاناه من تقتيل داخلي، دمّر، ولايزال يدمر، نسيجه الوطني، بما لا حدَّ له من الصراعات السياسية المذهبية والطائفية والجهوية والإثنية والقبلية، عدا تكبيله بتبعية سياسية، تعزز عملية نهب مقدراته وثرواته، وكل ذلك دون تحقيق ما وُعِدَ به من تحوُّلٍ ديمقراطي، بوصفه لافتةً تم احتلاله وتدميره باسمها، ذلك اللهم، إلا إذا صدّق أحد، خلافاً لحقائق الواقع، كذبة أن نظام الحكم القائم في العراق بعد احتلاله هو نظام ديمقراطي، وليس نظاماً مذهبياً طائفياً كاريكاتورياً فاشلاً، تجوز تسميته بأي مسمى إلا مسمى الديمقراطي .
يقول المأثور الشعبي: “اللبيب هو من يتعظ بما وقع لغيره، فيما الأحمق هو من لا يتعظ إلا بما وقع له” . تلك حكمة رفض النظام الليبي القمعي ومعارضوه الذين استدعوا تدخل حلف “الناتو” لإطاحته، الاتعاظ بها، على الرغم مما أعطته النتائج الكارثية للتجربة العراقية من دروس ماثلة . والأنكى، ألا يتعظ النظام السوري وبعض معارضيه، على الرغم من دروس التجربة العراقية، التي تكررت، وإن بسيناريو مختلف نسبياً، في التجربة الليبية، حيث يمعن النظام في اعتماد ممارسة القمع الدموي سبيلاً للاستمرار في السلطة، بينما يصر بعض معارضيه، باستماتة، على اعتماد التدخل الأجنبي إياه، حلف (الناتو)، سبيلاً لإطاحته وانتزاع السلطة منه . بنار الممارسة السياسية لوجهي عقلية السلطة بأي ثمن وثقافتها العتيقة البائسة، يكتوي الشعب السوري، (بعد الشعبين العراقي والليبي)، منذ انتفض في مارس/آذار من العام الماضي، وقرر استعادة سيادته، وتحرير إرادته، بخيار الحراك الشعبي السلمي، مستلهماً بذلك خيار الشعبين التونسي والمصري، اللذين استطاعا إطاحة نظام الاستبداد السياسي القائم في بلديهما، بأقل الخسائر، ومن دون استعانة بالأجنبي، لكن الخيار السلمي للشعب السوري، الواعي قبل، وأكثر، من نظامه وبعضِ معارضيه لخصوصية أن سوريا ما زالت تعيش حالة مواجهة مع “إسرائيل” المدعومة من الولايات المتحدة وحلفائها)، قد اصطدم بحائط عناد خياري التشبث بالسلطة، والاستيلاء عليها، بأي ثمن، حيث أوغل النظام، (باسم الوطنية)، في إدماء شعبه، بينما يمعن بعض معارضيه، (باسم الديمقراطية)، في طلب تدخل حلف (الناتو)، لحسم صراعهم معه على السلطة، ما وضع الشعب السوري وحراكه السلمي بين فكي كماشة الاختزال الاستعمالي لمفهومي الوطنية والديمقراطية، ففي حين يفصل النظام، بتعسف، بين الحفاظ على، والدفاع عن، الهوية الوطنية، وبين شروط ومتطلبات تعزيزها، وتحصينها، وبين الديمقراطية، فإن بعض معارضيه يفصل، بتعسف أيضاً، بين تحقيق التحول الديمقراطي، وبين شروط ومتطلبات حمايته الوطنية . وفي الحالتين ثمة تغييب مقصود، (بعقلية السلطة بأي ثمن)، للتلازم الذي لا مفر منه بين الوطنية والديمقراطية .
بهذا، وعليه، وبحسبان أن “العبرة في النتائج”، يكون النظام السوري بقمعه الدموي لحراك شعبه السلمي الانطلاقة، وبعض معارضيه بمطالبتهم التدخل الأجنبي، عدا دعمهم غير المعلن لعسكرة هذا الحراك، قد تشاطرا، بمعزل عن تفاوت المقدار، مسؤولية حرف مسيرة حراك شعبهم السلمي عن أهدافها، وأنجبا معاً ما وصلت إليه من تعقيدات مركبة، أفضت إلى ما يعيشه الشعب السوري من تقتيل يومي متبادل، ينذر جدياً بانزلاق سوريا الدولة والكيان الوطني أكثر فأكثر نحو حرب أهلية، يضاعف مخاطر الوقوع في حفرتها أن سوريا مازالت دولة مواجهة مع “إسرائيل” التي مازالت تحتل، (فضلاً عن فلسطين وأجزاء من الأراضي اللبنانية)، جزءاً من الأراضي السورية، (الجولان)، بل، ومازالت ماضية في استكمال تنفيذ مخططها الاستيطاني التوسعي لهذه الأراضي، ورافضة لخيار أية تسوية سياسية، تفضي إلى تخليها عنها . هذا فضلاً عمّا لسوريا الموقع، وبالتالي الدور، من تشابكات مع بقية صراعات منطقة الشرق الأوسط، تصر الولايات المتحدة وحلفاؤها على حسمها لمصلحة نفوذها، وتفوق “إسرائيل”، فيها .
عليه، وفي ضوء ما بلغته الحالة السورية من تعقيدات مركبة مفتوحة على كل الاحتمالات، بينها احتمال تدمير سوريا، صار من الصعب على كل وطني وقومي عربي ديمقراطي منسجم، يضع مصلحة سوريا الشعب والدولة والوطن والدور فوق أي اعتبار آخر، تبني نداء النظام الداعي، (باسم الوطنية وحمايتها والدفاع عنها)، إلى مساندته في قمعه على بياض ومن دون تدقيق، أو تبني نداء بعض معارضيه الداعي، (باسم الديمقراطية وتحقيقها)، إلى مساندته في دعوته إلى تدخل حلف الناتو، وأيضاً على بياض ومن دون تدقيق، ذلك أن النداءين يجمعهما، وإن تبدّى أنهما على طرفي نقيض، الإصرار على ممارسة سياسة إقصاء شعبهما وخياراته الوطنية والديمقراطية الحقة والمتعارضة على طول الخط مع ممارسة سياسة السلطة بأي ثمن التي تقود بشقيها إلى إعادة إنتاج ذات الحالة العربية، ومنها السورية، التي تفجرت، بعد عقود من الاعتمال، في انتفاضات الشعوب العربية التي يتنامى وعيها بالنتائج الكارثية لسياسة تجريد الوطنية وحمايتها من مقتضياتها الديمقراطية، وبالنتائج الأكثر سوءاً وكارثية لسياسة تجريد الديمقراطية من مقتضيات رفض التدخل الأجنبي الناسف للوطنية والديمقراطية في آن .
الخليج