سوريا وسياسة الهروب إلى الأمام!
أكرم البني
لا يمكن فهم التصعيد الرسمي في حادث إسقاط الطائرة التركية وتحميله معاني وطنية إلا شكلا من أشكال الهروب إلى الأمام ومحاولة تصدير الأزمة السورية المتفاقمة بافتعال صراعات خارجية، ربما كورقة أخيرة يلجأ إليها نظام يعاني العزلة واشتدت حالة الحصار العربي والعالمي المطبقة عليه وبات مصيره على المحك بعدما فقد سيطرته على عدد من المناطق وتزايدت الانشقاقات في صفوفه وفشلت كل وسائل القمع والتنكيل في القضاء على الاحتجاجات الشعبية والمظاهرات شبه اليومية.
سياسة الهروب إلى الأمام ليست جديدة بل اعتمدتها السلطة منذ انطلاق الثورة، بما هي هروب من قراءة الوقائع والأسباب الحقيقية للأزمة ومن وضع الحلول السياسية لها والاستعاضة عن ذلك بالتجييش ضد عصابات مسلحة وقوى سلفية متآمرة، وبتصعيد لغة العنف بصورة غير مسؤولة لم توفر صنفا من أصناف الأسلحة، ليغدو التنكيل المعمم ومحاصرة المدن والمناطق وعمليات القصف والتدمير أشبه بالخبز اليومي للناس!
وتعجب بعد خمسة عشر شهرا من تكرار المشهد السوري المأساوي ممن لا تعنيه النتائج الوخيمة التي ترتبت على سياسة الهروب وإنكار الأزمة والاستهتار بما يجري ولا يزال يفتنه الحديث عن وطن بخير ومجتمع معافى، بل لا يمل من الإشارة إلى حياة تسير بشكل طبيعي، ويستهزئ بالمحتجين على أنهم قلة قليلة لا وزن لها وتقوم بأعمال خارجة عن القانون وبتقليد أعمى لما حصل في تونس ومصر! وتعجب ممن لا تهمه إلى اليوم أعداد الضحايا والآلام والدم المراق فيشدد دعوته للسحق والضرب بيد من حديد، ربما لإقناع نفسه قبل الآخرين بأن ثمة قوى تملكها السلطة لم تستخدم بعد وبأن هناك جدوى من العنف في إعادة الأمور إلى ما كانت عليه!
إذا كان مألوفا لجوء الأنظمة الاستبدادية المأزومة إلى افتعال معارك خارجية لربح الوقت والتهرب من معالجة الأسباب الحقيقية لأزماتها، فما يعطي هذه الحقيقة زخما إضافيا في الحالة السورية، وصول أهل الحكم إلى طريق مسدودة، وشعورهم بأن الركون إلى عامل الوقت لم يعد في مصلحتهم، وأن التوغل في أساليب القمع والعنف لم يعد يجدي نفعا، كما لن تكون النتيجة مختلفة في حال الانكفاء والتراجع، وليس أمامهم سوى خيار تصدير الأزمة ومد الصراعات إلى لبنان بداية، ثم تسخين الأجواء مع تركيا عبر تحرشات سابقة متنوعة قبل أن تصل إلى حادثة إسقاط الطائرة.
وبلا شك يحاول أهل الحكم من وراء هذه السياسة ضرب أكثر من عصفور بحجر واحدة، بدءا بتوظيف أجواء الصراع الخارجي لتحويل الأنظار عن الحدث الداخلي وتمرير ما يحلو لهم من القمع والقهر بأقل ردود، مرورا بتوظيف الشعارات الوطنية ضد العدو الأجنبي لتمييع الشعارات المتعلقة بالحرية والكرامة والعدالة التي يرفعها المتظاهرون وتاليا لتشتيت وحدة الحراك الشعبي وشق القوى المعارضة وتشويه سمعتها، ربطا بمغازلة الجماعات التي لا يزال الهم الوطني ومواجهة التدخلات الخارجية يحتل الأولوية لديها، ومرورا بتحميل ما يجري للآخر المتآمر وتحرير الذات من المسؤولية ومما آلت إليه الأوضاع، انتهاء بالتعويل على تسخين الصراع مع تركيا في خلط الأوراق والتأثير على التفاعلات السياسية الجارية في الغرب حول الوضع السوري تزيد من قلق المتشددين وتشجع المتخوفين ودعاة التريث والتعاطي الاحتوائي، والأهم الرهان على ذلك في توسيع ميادين الصراع وإكراه الحلفاء كروسيا وإيران وحزب الله وبعض القوى العراقية، على وضع ثقلهم كاملا في الميزان ومؤازرة نظام على يقين بأنهم لن يتركوه وحيدا في معركته.
صحيح أن النظام يبدو مطمئنا فيما يقوم به لثقته بحلفائه وأن مصالحهم لن تسمح لهم بالتخلي عنه أيا تكن النتائج، وصحيح أنه يستمد القوة وحرية الحركة من قناعته بأن الغرب لا يزال مترددا ومتلكئا وغير راغب في التدخل العسكري الرادع، لكن الصحيح أيضا أن هذه السياسة تبقى سياسة خطرة، تشبه اللعب بالنار أو السير على حافة الهاوية، فمن يستطيع أن يضمن خط النهاية وأن الأمور سوف تسير وفق المخطط المرسوم ولن تفضي إلى عكس الأهداف المرجوة، خاصة أن أهل الحكم فقدوا اليوم القدرة على المناورة الآمنة وعلى تصدير أزمتهم، ربطا بما تعانيه قواتهم من إنهاك وقد استهلكها القمع المستمر للناس، ولنقل غير قادرة بحكم انتشارها في مختلف المناطق والمدن السورية على تخديم معركة خارجية أيا تكن حدودها، بل قد يزيد تطور هذه المعركة من ضعف النظام ويفقده السيطرة على مواقع جديدة. ثم من قال إن حملة التعبئة الآيديولوجية ضد عدو خارجي مزعوم سوف تفضي إلى توسيع جماهيرية الحكم وتشجع الالتفاف حوله؟! ومن قال إن إحياء الهموم الوطنية وشعارات السيادة قد تطعم المجتمع «خبزا» وترده إلى السكينة والخضوع؟! لقد ملت الناس شعارات المواجهة والممانعة وعافتها أرواحهم لأنهم خير من أدرك كيف وظفت هذه الشعارات لتعزيز أسباب التسلط والاستئثار والفساد، فكيف الحال وقد رسخت في نفوسهم مشاعر الغضب والألم من مشاهد العنف والتنكيل المروعين، بل لعل إقحام هذه الشعارات اليوم سوف يسرع في كشف عمق الهوة التي تفصل بين مصالح نظام خسر شرعيته الوطنية ولم يتردد في استخدام أشنع وسائل القمع وبين مصالح مجتمع أصبح يعاني الأمرين، وتعجل تاليا من ردود فعل الفئات المترددة أو السلبية وتشجعها على حسم خيارها في دعم الثورة والتغيير.
هي أمر خطير سياسة الهروب إلى الأمام وتصدير الأزمة وافتعال صراعات خارجية للالتفاف على الاستحقاقات الداخلية، والأخطر الاستهتار بالنتائج السلبية العميقة على البلاد ومستقبل أجيالها إن دفعت إلى معركة غير متكافئة وغير مبررة سياسيا وقانونيا، ربما هو خيار يائس، وربما هو خيار مقامر يطلب في لعبة «صولد» الحد الأقصى، إما ربح كل شيء أو خسارة كل شيء!
الشرق الأوسط