سوريا.. وطن بلا هوية!
طريف الخياط
عندما قرأت قبل بضع سنوات كتاب الباحث الأميركي صموئيل هنتغتون «من نحن؟»، الذي استعرض من خلاله إشكالية الهوية القومية الأميركية، شعرت بنوع من المبالغة عندما صنف سوريا إلى جانب دول أخرى منها العراق ولبنان وتركيا، تعاني مما سماه أزمة هوية، فقد بدت سوريا حينها كيانا سياسيا مستقرا عابرا للهوية، مع أنه منذ نشأته لم يمتلك هوية!
في 17 أبريل (نيسان) عام 1946، ألقى الرئيس شكري القوتلي خطاب الاستقلال، محددا ملامح الجمهورية السورية، كجزء من العالم العربي يناضل لردع الأطماع الصهيونية عن فلسطين باعتبارها الجزء الجنوبي من ديار الشام، مستشهدا بآيات القرآن الكريم من دون إغفال الإشارات الصريحة إلى جميع الأقليات الدينية والطائفية. لقد عرف الخطاب سوريا بهويات مركبة عابرة فوق الحدود السياسية للجمهورية الوليدة، هوية عربية وهوية إقليمية كجزء من بلاد الشام أو ما يسمى سوريا الكبرى، وهوية دينية إسلامية تعترف بالأقليات كمكون تاريخي أصيل في الفسيفساء الاجتماعية. وعلى الرغم من أن تأكيد الخطاب على عروبة سوريا قبل سوريتها قد جعل بقية الهويات تبدو ثانوية، لكنه أضاع فرصة مهمة كان من الممكن أن تؤسس هوية سورية خاصة، لشعب خاض حربا مشتركة ضد الاستعمار الفرنسي.
لقد ترجم الشعب السوري عروبته وتفاعله مع الخطاب الناصري إلى وحدة سوريا ومصر في إطار الجمهورية العربية المتحدة عام 1958، فشكلت عنده تلك المرحلة ذروة الهوية العربية التي ما لبثت أن تحولت إلى مشاعر جريحة في انفصال عام 1961، وتم إفقارها تدريجيا بعد انقلاب البعث عام 1963، فتحولت الوحدة العربية إلى مجرد تهويمات فكرية، وشعارات تستغل المشاعر الشعبية بهدف ترسيخ سلطة الحزب الواحد، بلعبة أتقنها حافظ الأسد بعد احتكاره للسلطة في انقلاب على رفاقه البعثيين.
لقد حول البعث الوحدة العربية إلى شاهدة رخامية على قبر العروبة، ولم تكن حينها الظروف السياسية والاجتماعية تسمح بتكوين هوية سورية تضم دول بلاد الشام، والتي هي الأخرى تم تشويهها عبر ممارسات الحزب القومي الاجتماعي السوري، ونظريته التي أعادت إنتاج الهوية السورية ضمن إطار جغرافي واسع يتجاوز المنطق السياسي والتاريخي والثقافي، ويصطدم بعوائق تفوق قدرته على حلها.
بدورها، ساهمت مرحلة الأسد الأب في مزيد من تشويه الهوية الوطنية السورية، دفعت بالشعب عبر سنوات من الكبت الفكري والسياسي بالانتكاس إلى هويات تفكيكية ما قبل مدنية، تسببت في إعلاء الديني على الوطني. وكانت مجزرة حماه عام 1982 حدثا مفصليا أحدث شرخا في النسيج الاجتماعي السوري، عمل من خلالها النظام، في خطوة منه لتبرير وحشيته، على استغلال مخاوف الأقليات التقليدية، والظهور كحام لها عبر شيطنة الإخوان كأحد رموز الأكثرية السنية.
الطبيعة الطائفية والبوليسية للنظام الأسدي من حيث اعتماده على العائلة والطائفة في شغل المفاصل الحساسة الأمنية والعسكرية، ساهمت في زعزعة صورة الطائفة العلوية وربطها عضويا مع النظام وآلته القمعية، ومع تصاعد العنف الممنهج والمتعمد خلال الثورة، خلق هذه المرة مخاوف الأكثرية من الأقلية الحاكمة. وجود إسرائيل ككيان قائم على أساس ديني، والحرب الأهلية الطائفية في لبنان، وصولا إلى الحالة العراقية الراهنة، والاحتقان الإقليمي على شكل حرب باردة سنية – شيعية، جميعها عوامل خارجية تفاعلت مع الداخل وأرخت بظلالها الثقيلة على المجتمع السوري، الذي استقبل لعقود خطابا طائفيا تنتجه وسائل الإعلام في دول الجوار.
من الواضح اليوم ظهور استقطاب طائفي وعرقي في الساحة السورية لم يبلغ مرحلة اللاعودة بعد، لكنه يمايز بين العرب حسب الهوية الطائفية، ويبرز الكرد بهويتهم العرقية متجاوزا الرابط الطائفي مع الأكثرية السنية. لا تتسم الهويات المركبة للجماعة بالثبات، وإنما تتبدل حسب إعادة تعريف الجماعة لذاتها بالتفاعل مع الظروف المحيطة، عبر إعادة ترتيب أولوية هوياتها الفرعية، معتمدة على ذاكرة كلامية موروثة وانتقائية غير دقيقة، تركز على نقاط الخلاف والأحداث العنفية، فتستسهل إعادة تعريف الآخر بالعدو.
وفي استمرار غياب هوية جامعة يلتف حولها السوريون كأولوية، من المرجح لدى البعض تشابه النموذج السوري مع الحالة العراقية، ويقارنه آخرون بالحالة اللبنانية الراهنة كانقسام بين موالاة ومعارضة لنظام الأسد، في مسعى يقلل من أهمية العامل الطائفي. من المحتمل أن الوضع السوري يحمل تقاطعات مع الحالتين الراهنتين للعراق ولبنان، ومع الحالة اللبنانية أثناء الحرب الأهلية، لكنه لا يتطابق مع أي منها.
لم تتشكل لسوريا منذ استقلالها هوية جامعة مما يستدعي إعادة صياغتها ضمن عقد اجتماعي، تتوافق عليه المكونات الاجتماعية كافة، لتعلن ولادة وطن مستقر يؤمن بذاته، قبل أن يعيد تموضعه ضمن الخريطة الإقليمية وما يترتب عليه من تجاذبات.
لقد وعى الشعب السوري منذ اليوم الأول خصوصية ثورته وتعقيداتها، فنادى «واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد»، ووعى النظام أن بقاءه منوط بعقيدة استعمارية على مبدأ «فرّق تسد».
* كاتب سوري
الشرق الأوسط