سوريا ونفق العدمية الجهادية/ عمر قدور
لم يعد تساقط قذائف الهاون على أحياء دمشق وضواحيها “الهادئة” يثير انتباه الإعلام، مع أن تساقطها على هذا النحو المستمر ينبئ بتغيّر في تكتيكات بعض كتائب المعارضة، وقد سبق أن تلقّى سكان دمشق إنذاراً بضرورة الابتعاد عن المقارّ الأمنية التي سيستهدفها القصف. إلا أن استخدام الهاون، كما هو معلوم، لا يدلّل على دقة في انتقاء الأهداف، ولا تكفي النوايا الطيبة لإيصال تلك القذائف إلى أهدافها العسكرية ما دامت تُستخدم ببدائية وعشوائية. الهاون سلاح يوصف أصلاً بالغباء، وندر أن استُخدم على نطاق واسع في مناطق المدنيين كما بدأت قوات النظام تفعل منذ حوالي سنتين، وكما بدأت بعض الكتائب المعارضة تفعل الآن.
منذ البداية سعى النظام إلى تخويف بعض المناطق الهادئة من الكتائب المسلحة، وافتعل فيها تفجيرات واستخدمت قواته قذائف الهاون أحياناً بغية إلصاق التهم بالمعارضة ووضع سكان تلك المناطق في عداء مع الثورة. في المقابل تحاشت فصائل الجيش الحرّ الفخ المنصوب لها، ولم تستهدف المناطق المدنية الموالية رداً على استهداف قوات النظام المستمر للمناطق المحرّرة. لكن الانضباط الذي أبدته فصائل الجيش الحر لا ينسحب على كافة المجموعات المسلحة، وقد يكون في طريقه إلى الزوال نهائياً مع عدم وجود آفاق للحل حالياً، أو مع انقطاع الإمدادات العسكرية في ظل حصار خانق يفرضه النظام على المناطق المحررة، الأمر الذي قد يدفع كل فصيل إلى اتخاذ إستراتيجية وتكتيكات خاصة به وذهاب العديد من الفصائل إلى خيار العنف غير المنضبط.
على رغم التعسف في المقارنة، كانت الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين في ثمانينات القرن الماضي قد استهلّت عملياتها باستهداف رموز النظام على أساس طائفي غالباً. ومع اعتماد النظام لسياسة البطش الأمني حيالها لم تتراجع عن خيار العنف الذي انحدر إلى مستويات متدنية لا تطاول شخصيات فاعلة في النظام، ولا يصل قسم كبير منها سوى إلى حدّ إثبات الوجود وإثبات عدم قدرة النظام على الإمساك التام بالأمن. أي أن ما تبقى من الطليعة المقاتلة آنذاك لم يرمِ السلاح تحت الضغوط الأمنية، بل اعتمد العدمية الجهادية كخيار انتحاري بما أن أي أفق سياسي أو عسكري صار متعذراً. من هذه الجهة فقط قد تجوز المقارنة، مع التشديد على الهوة بين طرفيها من حيث اتساع رقعة المناطق الخارجة عن سيطرة النظام حالياً وارتفاع عدد المقاتلين إلى حد كبير، الأمر الذي ينذر بكارثة عامة فيما لو انزلق هذا العدد إلى اليأس التام من إمكانية الحسم العسكري وإمكانية الحل السياسي.
ما كان واضحاً جداً في الشهرين الأخيرين هو أن القوى الدولية ارتاحت إلى صفقة الكيماوي، وبدأت الإعدادات لمؤتمر جنيف2 على وقع تسريبات تتحدث عن صفقة لصالح النظام. في الوقت نفسه تراجعت الالتزامات السابقة المعلنة عن إيجاد توازن بين قوات النظام والجيش الحر؛ ذلك عنى في كل مرة قطع خطوط الإمداد عن الأخير في الوقت الذي يتلقى فيه النظام العتاد والمقاتلين الأجانب بوفرة ويستغل ذلك لتحسين مواقعه على الأرض أو إيقاع أكبر أذى بالمناطق الثائرة. لكن الجديد هذه المرة هو الشعور العام بأن القوى الدولية المتنفذة في سبيلها إلى إعادة تأهيل النظام واعتماده مجدداً، ما يوحي بأن زمن التجاذبات قد انتهى وبأن المعارضة ستدفع الثمن الباهظ للتفاهمات الجديدة.
غير أن تطبيق الصفقة المجحفة التي يجري الحديث عنها لن يكون ممكناً بسهولة، ومن المرجّح أن ينفلت العنف المسلح على نحو غير مسبوق جرّاء أي اتفاق لا يلحظ الحقوق الأساسية للسوريين التي انطلقت من أجلها الثورة. حينها قد تكون كتائب الجيش الحر معرّضة للانقسامات ولاعتماد خيارات عنف متطرفة، من دون أن تكون بالضرورة خيارات أيديولوجية بقدر ما هي ناجمة عن اليأس التام؛ في هذه الحالة قد تأتي الأيديولوجيا الجهادية غطاء للعنف لا سبباً أصيلاً له، وستصبح العدمية الجهادية وسيلة معممة من دون أن تطرح أهدافاً كبرى على غرار “القاعدة”.
حتى الآن تبدو القوى المستفيدة من الثورة السورية كثيرة، باستثناء مجتمع الثورة نفسه. ففي الداخل يعتقد الموالون أنهم كسبوا المعركة بكسبهم للخارج وسيبدؤون بحصد المكاسب، أما القوى الدولية فقد كسب كلّ منها ما يريده: روسيا عزّزت من موقعها العالمي وأميركا وإسرائيل تخلصتا من أسلحة النظام الكيماوية ومن قوته العسكرية التي استُنزفت في الداخل. مع ذلك من الخطأ الظن بأن مَن تم تحصيل هذه المكاسب على حسابهم سيقبلون بدور الخاسر الأوحد. عدم توازن القوى الحالي غير كافٍ للتسليم بهذه النتيجة لأن الفوضى التي تعاني منها الثورة لا تتيح جهة قادرة على الاستسلام وتنفيذ تبعاته. خيار العدمية الجهادية قد يقلب الطاولة على مَن يعتقدون أنهم ربحوا الحرب، وهو بالتأكيد لن يكون أيضاً مكسباً لمجتمع الثورة ولن يُبقي دول الجوار بمنأى عن تداعياته؛ أغلب الظن أنه سيجرّ الجميع إلى طور تهون معه تبعات السنتين والنصف الأخيرتين.
المدن