سوريا – شعب أم شعوب
زكريا حسن
منذ تأسيس الدولة السورية فإن الصراع لمّا يزل مستمراً على ( الشعوب السورية أم الشعب السوري ) وهذا بالضبط ما لم تستطع النخبة (سياسية ، ثقافية ) أن تعالجه وتجد له الحلول المأمولة .
هل معنى أننا في سوريا شعوب يفضي إلى عدم قدرتنا على التعايش والأستمرار أم أن الشعب وحده يستطيع التطور ، لقد أستخدم منظرو حزب البعث ومن يسير معهم على الخط الفكري مصطلح الشعب العربي ( يشمل كل الوطن العربي ) والخلفية الفكرية لهذا المصطلح شمولية بكل معنى الكلمة وتؤدي إلى تنويم معرفي وثقافي كما حدث خلال النصف قرن المنصرم أو ما يزيد ، حتى أن من يسكن في سوريا لا يمكتلكون مقومات الشعب ، بل هم جزء من الشعب العربي ، لكن بالعودة إلى القاموس الفرنسي فنرى بأن مفهوم الشعب يشير إلى مجموعة من الناس تسكن ضمن رقعة جغرافية معينة سواء أكان شعباً كبيراً ( الشعب الفرنسي ) أو شعباً أقل عدداً ( الباسك ) ، وهذا بالضبط ما أريد التأكيد عليه ضمن المقالة بأنني سأستخدم مصطلح الشعب لكل الشعب السوري وسأستخدمه ( للشعب الكردي والشعب العربي …ألخ ) أي الأنتقال من الشمول إلى التعدد والذي أثبتت الشعوب السورية إمكانية قدرتها على أستخدامه وتداوله ضمن الإرادة الجمعية لكافة المكونات.
يعكس حجم التنافر بين مكونات دولة ما حجم المشكلة التي تعانيها تلك الدولة ، وفي دولة مثل سوريا فإننا نرى أن السلطة السورية ومنذ أستلام البعث – تم تأكيد ذلك في زمن حافظ الأسد- عمدت إلى زرع ثقافة ضمن المجتمع السوري مفادها ( لو لم نكن نحن ، لما كانت سوريا ) أي لو لم نعمد إلى تثبيت دعائمنا عن طريق طرح قمع من يعمد إلى الحديث عن أن سوريا ليست كما نقول ، وذلك بأستخدام أستراتيجية معاكسة للقول وهي الفصل بين الشعوب السورية بكل مكوناتها العرقية والدينية ، ولو لم نعمد إلى تقديم الولاء والوفاء على الكفاءة لما كانت سوريا هي سوريا وأن سوريا بمزيجها غير المتآلف وغير المنسجم لا تستطيع الأستمرار إلّا بهذه الطريقة ، وأنه في حال التفكير بغير هذه الطريقة أو بغير هذا الحل فإن سوريا لن تكون إلّا كيانات متجزأة ومتنافرة وليس من طريقٍ إلّا التفكير الذي نعتمده .
و في دولةٍ ما فإن لطريقة أنتقال السلطة الدور الأكبر في التعرّف على ثقافة ذلك البلد ، والحال هذا فلن نتعجب إذا علمنا أن أنتقال السلطة في السلطنة العثمانية كانت تتم إما عن طريق التوارث أو عن طريق الأنقلاب الذي وفي أغلب الأحيان كان ينتهي بموت أحد الطرفين (المُنقلب أو المُنقَلَب عليه) ، إلّا أن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد فقد تم ترسيخ ذلك وكأنها ثقافة عصية على الزوال ، وبخاصة في دولة مثل سوريا توارثت أسوأ سمات الدولة العثمانية .
يعتبر الشعب السوري – وأغلب شعوب الشرق الأوسط – هامشياً في حياة الدولة , ففي سوريا ومنذ قيامها أي بإنتهاء الأنتداب فلم تشهد سوريا أية عملية ديمقراطيةٍ تعبر عن إرادة الشعب وكانت الأمور دوماً تنتهي إما بإنقلاب على السلطة من قبل العسكر أو بأتخاذ سبيلٍ مفضٍ إلى المجهول من قبل القلة القليلة ( الوحدة مع مصر مثلا ) ، مع العلم أنّه وفي مرحلة من المراحل كان الشعب السوري مهيئاً لحكم نفسه بنفسه إلّا أن إرادة ثقافة ما قبل الدولة تغلبت على الشعب وأرجعته سنيناً طويلة إلى الوراء.
وإلى أن أستلم حزب البعث السلطة في سوريا فرسّخ في الوليد ميراث السلطنة العثمانية الموروث أصلاً ممن قبله لتتولّد في سوريا قبائل ترتدي البذات الرسمية ، وأستند كما يؤكد على ذلك الدكتور برهان غليون إلى الميراث الحزبي تارةً والعشائري تارةً أخرى أي حلّت المقاطعات الحزبية بدلاً من الولاءات العشائرية التي لم تنتهي أصلاً .
لكن السؤال المطروح : هل فعلاً أننا غير قادرين كسوريين على التعايش دون تقزيمنا بعضنا البعض أو دون حرمان غيرنا من ممارسة طقوسهم وعاداتهم ودون الإحساس بوجودهم ضمن النسيج السوري ؟
من الملاحظ وبشكل جلي أن المعارضة السورية التي تدّعي أنبثاقها من إرادة الشعب السوري قد تأثّرت بشكل ما برؤية السلطات المتعاقبة ولم تحاول بأي شكل من الأشكال تغيير الواقع عن طريق طرح البدائل ، حتى أنها وفي زمن ما قبل ثورات الشرق الاوسط وشمال افريقيا لم تكن تؤمن بإمكانية الحلول المنبثقة من إرادة الشعب ، بل وكما في كل مرة فقد كانت تنتظر إما الحل الخارجي أو حدوث أنقلابٍ سلطاني-على غرار الدولة العثمانية – من داخل البيت الحاكم أو السلطة الحاكمة ،والآن نرى الوجوه البارزة من المعارضة السورية تسعى إلى لجم التنوع الموجود في سوريا أعتقاداً منها أن إظهار التنوع العرقي والديني سيؤثر سلباً في العملية الأنتقالية التي تمر بها سوريا ما يعني تهربهم مرة أخرى من تاريخ سوريا ومن قدرة الشعب السوري على خلق مناخه الديمقراطي الخاص به والممتد منذ أمدٍ بعيد ، إلّا أن الشعوب السورية أعرق وأقدم من الكلمات الأخرى ، فقد أستطاع والآن يستطيع أن يثبت أنه أكثر جرأةً من النخب السياسية ومن المثقفين ، وأنه وبغياب من يستطيع تمثيله والتعبير عن إرادته فهو ليس بعاجزٍ عن تمثيل نفسه.
إن نظرةً فاحصةً لتاريخ الشعب السوري تبيّن وتوضح بأن هذا الشعب وخلال تاريخه المعاصر والحديث وحتى القديم كان قادراً على التعايش السلمي وكان التعطش إلى الحرية هو هدفه الأسمى ، والدليل الأقوى على ذلك هو أختصاص كل مجموعة سكانية على رقعة جغرافية بعينها و الأختلاط والتعارف والعيش المشترك هيسمة بارزة لذلك الأختصاص ، طبعاً دون أن ننسى أن مفهوم الشعب في سوريا – آذار 2004- كان قد تم تنويمه بشكل كامل ، حيث لم يقم أي فرد غير كردي حتى بالحديث عمّا جرى من مذابح وجرائم ، فقد أنتفضوا لا ليقتطعوا جزءً من الأراضي السورية كما تُروّج الروايات الحكومية بل أنتفضوا ضد طاغية حرمهم من كلمة مواطن وما زال ، من كلمة شعب ولا يزال ، المهم أن لا أحد حاول التلفّت إلى هذه الأنتفاضة – ليس تقبلها بل عدم رفضها – وتم إلحاق كلمة الخارج حتى من بعض النخبة العربية التي تعتبر نفسها معارضة للنظام ، والآن فقد أندلعت بالفعل ثورة الشعب السوري وستنتشر في كل سوريا ، وستكتمل لأن الشعب السوري كما الشعوب الأخرى ثارت ليس فقط من أجل الخبز والحرية بل من أجل التأكيد على إمكانية العيش دونما دعامات بالية ودونما مبالاة بما تم التحضير له من قبل الحكومات البعثية ، تلك الدعامات التي تقضي بأن سوريا لن تكون سوريا دون هكذا قيادة ودون هكذا فكرة ، وأنه وفي سوريا فلا شعب تجمعه روابط مشتركة في هذا البلد المصطنع ، وليس من إمكانيةٍ لإدارة شؤون البلاد غير تلك التي عليها سوريا ، وما دام ذلك ممكناً فلا ثورة توحّد أبناء هذه البلد , وكل ما نحن عليه اليوم هو محاولاتٌ يائسة لجعلنا شعباً واحداً بينما الواقع يبرهن أن لا وجود لهكذا نظرية ، وأننا مجموعة من الشعوب والطوائف الغير متآلفة , فإذاً نحن أمام ( لا شعب) موحّدٍ بقوة ما هي قوة النار والسلاح وإلاّ فالشرق الأوسط لا يستطيع الأستمرار على هذه الشاكلة ، وأننا في سوريا وشرق المتوسط يجب أن نمر بتجربة التفكيك إذا ما فكّرنا بغير الموجود.
هذه الثقافة الممتدة منذ أمد بعيد رسّخت لدى الشعب السوري تصورات بطبيعتها قابلة للتغيّر لكن ليس عبر الموجود من نخب سياسية مغتصبة إرادتها أو عبر المعارضة المغلوبة على أمرها وإنما عبر جيل مفكرٍ, ويحمل على عاتقه ليس تغيير أسس المجتمع السوري وتراثه العتيق المتهكم والراضي بالرضوخ للسلطان المتغذّي على شعب واحد في سوريا ، بل عبر إعادة المجتمع السوري إلى وضعه الطبيعي كونه قادراً على إنتاج حضارة غنيةٍ بالتعدد الموجود أصلاً .
بالحديث عن الشعب السوري فإننا ، لا أتكلم عن سوريا منذ الأستقلال عن فرنسا بل عن تاريخ سوريا الطويل والذي لا يشكل فيه حكم البعث ومن قبله سوى مرحلة عارضة ، وبالحديث عن كيفية أنتقال السلطة فلا بد لنا أن نعرف أننا كسوريين قادرين على التخلص من ميراث السلطنة العثمانية ومن ورثه عنه .
قد يراهن المراهنون على سوريا وعلى نجاح أو عدم نجاح الثورة السورية ، وحجتهم أن كلاً من الشعبين التونسي والمصري قد نجحا في ثورتيهما أعتماداً على التجانس الموجود المفضي إلى نجاح بل وسهولة نجاح الثورة ، وحتى في مجتمع مثل المجتمع المصري الذي يضم أقليةً قبطية فإن حقوق هذه الأقلية ليست مهضومة ولم تشكّل في يومٍ من الأيام حجر عثرة أمام التحوّل الديمقراطي ، وأنه وفي سوريا – كما تقدم – فإن عدم التجانس يفرض عدم التوصل إلى ما حققه الشعبان التونسي والمصري ، إلّا أن ما حدث وما يحدث وما تؤكد عليه المظاهرات يدعم بالدليل الدامغ أن سوريا متجانسة وأن النصف قرن الماضية من تاريخ سوريا هي مرحلة عارضة فرضتها بعض الشروط والظروف الغير منسجمة مع المجتمع السوري ، وأن من حكم سوريا خلال تلك الفترة حاول أن يزرع فينا ثقافة ( اللاشعب الموحد بقوة السلاح والنار والقمع ) ، وأن ما يحدث يؤكدعلى أننا متعددون ومتآلفون ونمتلك القدرة ضمن هذه الشروط على أنتزاع حريتنا وخبزنا وتعدديتنا .