صفحات العالم

سوريا: 5 سنوات ثورة/ حازم صاغية

 

 

 

توفّر المحطات السنوية مناسبات للاسترجاع والاستعادة، وأحياناً للتأمل، وربما للتصحيح حين يبدو التصحيح ممكناً. ومن الطبيعي في الحالة السورية، مع انقضاء خمس سنوات على اندلاع الثورة، أن تتزايد هذه الميول جميعاً. فالحدث لا يزال راهناً وحاراً، أكان في وجهه العنفي الذي لا يزال مبكراً جداً القول بانقضائه، أم في جروحه الاجتماعية قتلاً ونزوحاً وتهجيراً.

لكنْ في سوق الكلام الذي يهب من كل مكان، ويحمل كل معنى، لا بأس بالعودة إلى أساسيات يعيد الحدث الكبير في ذكراه السنوية الخامسة تذكيرنا بها. فعلى عكس ما يقول البعض، ليس مستغرباً على الإطلاق أن تقوم الثورة السورية في مارس 2011، وسط المناخ الثوري العام الذي طال خمسة بلدان عربية (تونس ومصر وليبيا واليمن، فضلاً عن سوريا). المستغرب، في المقابل، أن تلك الثورة تأخرت كل هذا الزمن المديد. فهي طلب شعبي على الكرامة الإنسانية والحرية والخبز من نظام بعثي ولد في 1963، وصار عائلياً في 1970، ثم وراثياً في 2000. وعلى مدى هذه السنوات لم يُستشر الملايين في أمر حياتهم وموتهم، فتُركوا لنظام من القمع والإفقار والتجويع والعزل عن العالم.

وربما كان أهم ما في الثورة، فضلاً عن التضحيات البطولية التي أبداها ولا زال يبديها السوريون في مواجهة إجرام غير عاديّ، أنها كسرت نظريات الكذب والتمويه التي أنتجها النظام السوري نفسه، ولاسيما أنها كسرتها على أرض سوريا ذاتها. فالصمود والتصدي وتحرير فلسطين ومكافحة الإمبريالية وسواها هي بالضبط ما تبين أنها وصفات زائفة لتكبيل السوريين وإدامة استلابهم وفصلهم عن حياتهم والتصدي لهمومهم المباشرة. وقد انكشف استطراداً أن النظام الأسدي على كثرة تشدقه بالوطنية والقومية لا يمانع، في دفاعه عن ذاته واستمراره، في تأجير السيادة الوطنية لدول كإيران وروسيا، ولتنظيمات طائفية لبنانية وعراقية وسواها.

ومما بات معروفاً للجميع أن النظام المذكور، ومنذ البداية، لم يتردد في استعمال كافة الأوراق القابلة وغير القابلة للاستعمال. وقد نجح القمع الاستثنائي الذي واجه الثورة السلمية في دفعها إلى عسكرة تبيّن مبكراً خطرها بقدر ما تبينت استحالة تجنبها. ذاك أن النضال المدني في آخر المطاف لا يعيش طويلاً في ظل قمع يستعمل حتّى السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة. والبشر لا يستطيعون إلى ما لا نهاية أن يردّوا بالزهر على أشكال قتلهم الوحشية. وعلى العموم، وبالتدريج، راح طابع الثورة يتراجع أمام طابع الحرب الأهلية المعززة بصدام إقليمي واسع.

هكذا سجل النظام نجاحه الأكبر إذ منع الثورة من أن تكون سلمية ومدنية، ومن أن تنتمي إلى عالم الثورات التي شرعت في الظهور بعد انتهاء الحرب الباردة، ولاسيما في أوروبا الشرقية والوسطى.

وكان طبيعياً أن يستعين النظام في فعله هذا بما صنعه هو نفسه على امتداد عقود، وبما صنعه، قبله، مركّب التخلّف والتكوين العصبيّ للعالم ما بعد العثماني. هكذا استُنفر الجوف المكبوت والعفِن للعلاقات الأهلية والطائفية المتصدعة ليكون الحليف، ولو من الموقع الضدّ، للاستبداد. وإذا كانت «داعش» أكبر ثمار هذا الجوف (علماً بوجود جيب أجنبيّ غير بسيط داخلها)، فإنّها أيضاً أكبر هدية أسديت للأسد.

فإذا استطاعت الثورة السورية، بعدما صارت مسألة سورية، أن تتحوّل حدثاً كونياً كبيراً، خصوصاً بسبب الإرهاب واللجوء، بقي أن اللحظة العالمية صارت تشتغل على نحو بالغ الانتقائية والأنانية. وهكذا بتنا في وضع لا يستطيع معه من استولوا على الثورة مخاطبة العالم، ولا يهمّهم ذلك، فيما العالم نفسه لا يهمّه أن يسمع إلا عن «داعش»!

————-

كاتب ومحلل سياسي – لندن

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى