سورية، أيضاً وأيضاً/ نجوى بركات
ما الذي يمكننا الكتابة عنه، وحلب قد حدثت، وحلب ما زالت ما هي عليه، وحلب تملأ العين وتفيض عنها بما يُغرق الروح ويُميتها. بل ما الذي يمكن الحديث عنه بعد، ولا تكون سورية وحلب موضوعه؟
تسألني كلود، بعد مضي دقائق من موعد لقائنا في المقهى، وبعد يوم من وصولي إلى باريس: أخبريني، ما الذي يحدث في سورية الآن، فأنا لم أعد أفقه شيئاً.
وكلود التي تقترب من سبعينياتها هي من الناشطين والمهتمّين بأحداث العالم، ومن الذين ينظمون مظاهراتٍ، ويسيرون في مسيراتٍ، ويعتبرون أنهم يقفون دوماً إلى جانب الضعيف والمظلوم، وتحديداً العرب والفلسطينيين، في كفاحهم ضد إسرائيل، وذلك منذ عام 1968 وحتى مقتلة مجلة تشارلي التي جعلتها تتراجع عن حماستها تلك، وإنْ بضع خطوات. فحرية التعبير لدى كلود أمر مقدّس، بقدر ما هي العلمانية، يليها توازنها النفسي والجسدي الذي تعالجه بكل أنواع الأعشاب والوصفات والرياضات الروحية، وبكل ما يُعنى بمسائل الطاقة من قريب أو بعيد. حين تكرّرت الأعمال الإرهابية في باريس، قفزت كلود قفزةً مهمةً إلى الوراء، إذ ما الذي ينبغي توقعه منها، هي التي خسرت صديقاً عزيزاً في الهجمة على صالة باتاكلان، ولم تكد تنساه حتى جاءتها مقتلة نيس.
إذاً، تسألني كلود، من باب الاهتمام والتضامن، عن أحوالنا، نحن الذين نحيا dans la région، (في المنطقة) كما تقول، فأتردّد في الإجابة قبل أن أنزلق ببطء، لأنتهي مستميتةً في الشرح ومحاولة الإقناع، فيما تقذفني هي باستفساراتٍ مشكّكةً عمّا قد يكونه الحلّ السوريّ في غياب بديل. وحين أفتح باب تلكؤ الغرب في أخذ موقفٍ، وتركه سورية وحلب لقمةً سائغةً في فم الغيلان، تقاطعني قائلة: أليس كل شيء أفضل من إرهابيي الإسلام؟ أتريديننا أن ندعم إرهابيين؟
أصمت وأنظر في وجه كلود، فيشتعل بياضه بالحمرة. “الأمر معقد جداً، تعرفين”، تقول متلعثمةً، وقد ضبطت نفسها تحكي بلغة حكّامها. أشعر وكأنها قد عزمت، في قرارة نفسها، ألا تراني بعد الآن، هي التي تريد الابتعاد عن مواضيعنا المشؤومة، المسيئة لاتّزانها النفسي. لا حاجة للمواصلة، أفكّر. لقد ضاعت منّا كلود. لم يعد رأسها يفرز. إنها كمن هو مصابٌ بعمى الألوان، فكيف بها حين تكون الألوان على هذه الدرجة من التشظّي والتضارب والكثرة.
والحال، لمَ قد يضطر أي رأسٍ أن يفرز إلى هذه الدرجة عندما يحيا في ظروفٍ سوية؟ أجل. في بلاد كلود، الأشياء سوية بمعنى ما. في بلادها الأشياء واضحةٌ، موضبة، ومنطقية. في بلادها لا التباس “وإلا ففي حد أدنى لا يعكّر كرامة العيش”، لا اقتراب من النار، ولا زلازل يومية، ولا براكين.
تقول كلود، وأنا أصدّقها: “قلبي لم يعد يحتمل كل هذا العنف يا صديقتي”، ثم تضع عينيها في الزجاج. وقلبي أنا؟ ماذا عن قلبي أنا، أفكّر في قرارة نفسي، أتظنينه يحتمل كل هذا؟ لقد قتل لكم عشراتٌ بطريقةٍ وحشية، وهذا أمر فظيع، وربما حتى المئات. لكن، ها هو يُقتل لنا هذي الأعداد كل يوم، قصفاً وغرقاً وتعذيباً وحصاراً وتجويعا، فلمَ تراني أشعر بالذنب تجاه قتلاكِ أنت، وأنا في الحقيقة لا ذنب لي؟ ما الذي يجعل قتلاك، يا كلود، أكثر موتاً من قتلاي؟ ما الذي يجعلهم أكثر براءةً وأكثر حياة؟ ألأنهم لم يولدوا dans la région (في المنطقة) حيث يجاور الموت أطفالاً رضّعاً بعمر أيام؟
أفكّر للحظة، لو أنني كنت مكان كلود، فهل كنت سأكون أفضل موقفاً منها؟
يميل عليّ رجل سبعيني من الطاولة المجاورة، ويسألني هامساً وابتسامة رؤوفة تعلو محيّاه:
– أنت من سورية، أليس كذلك؟
– أجل، يا سيدي. أجيبه، اليوم، أنا من سورية.
العربي الجديد