سورية، لا أمّ لها
حسان عباس
غدا احتمال تقسيم سورية إلى دولتين أو أكثر، تأسيساً على التصدّعات الاتنية و/أو المذهبية الكامنة في المجتمع، واحداً من السيناريوهات الشائعة التداول على صفحات الإعلام أو في نقاشات الحياة اليومية. إن السهولة التي باتت تطرح بها مسألة بالغة الخطورة كمسألة تقسيم البلاد تعيد إلى الأذهان السؤال العميق والخطير عن الشكل النهائي للوطن السوري، وتسترجع مخاوف راسخة في الذاكرة الجمعية السورية حول هذا الموضوع. لقد جنّد النظام الدولةَ وأجهزتها الإيديولوجية المختلفة لتقوم بأدوتة بعض هذه المخاوف كقضايا صراع يستطيع التلاعب بها بما ينسجم مع مصالحه السياسية والجيوسياسية المتغيرة. لكنه، في الوقت نفسه، وضع كل طاقاته لكتم أي صوت يذكّر ببعضها الآخر، كما لو كان يريد أن يمحوها من ذاكرة الناس، لغاية ليست في نفس يعقوب وإنما طي الوثائق السرية التي قد تنكشف أمام الأجيال القادمة، أو تغرق في غياهب النسيان.
الذاكرة الجمعية السورية عن الوطن كمكان جامع لمواطنيه حبلى بندوب البتر والاستئصال والاقتطاع.
بدأت أولى عمليات تقسيم المنطقة عام 1916 عندما قررت حكومتا فرنسا وبريطانيا تقسيم بلاد الشام والعراق إلى دويلات صغيرة حسب اتفاقية سايكس بيكو. وبعد سنة من تلك الاتفاقية، أصدرت الحكومة البريطانية عام 1917 الرسالة التي صارت تُعرف في ما بعد باسم “وعد بلفور” والتي تعهّدت فيها بالمساعدة على إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وكان كما يعرف الجميع أساس تأسيس دولة إسرائيل بعد ثلاثة عقود من صدوره.
في اليوم الأول من تشرين الأول عام 1918، دخلت قوات الثورة العربية مدينة دمشق، وفي الشهر نفسه احتلت فرنسا الساحل السوري تطبيقا لاتفاقية سايكس- بيكو. وقد رفض المؤتمر السوري العام الذي انعقد في حزيران 1919 في دمشق الاتفاقية والوعد والانتداب، وطالب باستقلال سورية الطبيعية (بما فيها لبنان وفلسطين) والعراق. لكن رئيسي الوزراء البريطاني “لويد جورج” والفرنسي “جورج كليمنصو” عقدا اتفاقا في أيلول من العام نفسه أكّدا فيه على الاتفاقية مع تعديل بسيط يعطي لفرنسا الساحل السوري مقابل منح الموصل لإنكلترا. وبناء على ذلك الاتفاق دخلت قوات الانتداب الفرنسية سورية يوم 20 تموز 1920، وبعد أربعين يوما (31 آب) أصدر غورو قراراً بضم الأقضية الأربعة (بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا) والساحل إلى جبل لبنان لإنشاء دولة لبنان الكبير .
عام 1921 عقدت فرنسا اتفاقية أنقرة الأولى التي منحت بموجبها لتركيا منطقة (جنوب الأناضول) التي تضم (كليكيا وأضنة والرها وحرّان وماردين وديار بكر..)، وفي 23 حزيران 1939 عقدت اتفاقية أنقرة الثانية التي نصّت على ضم لواء إسكندرون نهائيا إلى تركيا لاستمالتها في الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا.
وفي حرب حزيران 1967 “النكسة”، قامت إسرائيل باحتلال الجولان، لتقوم من بعد ذلك بضمه رغم أنف الشرعية الدولية المطالبة بعودة الأمور إلى ما كانت عليه يوم 4 حزيران.
سلسلة من الاتفاقيات والمعاهدات المعلنة أو المخفية انتهت بالوطن السوري إلى الشكل الذي هو عليه الآن، وربما يجدر بالسوريين أن يستذكروها الآن، ليس إحياءً لمفاصل أليمة في حياة وطنهم فحسب، بل إذكاء ليقظة واجبة ومشتهاة قبل أن “يقع الفاس بالراس”، حسب المثل السائر.
يروي العهد القديم في سفر الملوك (3، 16-28) حكاية عن حكمة النبي سليمان حين مثلت أمامه امرأتان تدعيان أمومة طفل واحد، فأمر بقطع الطفل نصفين ومنح كل امرأة من المدعيّتين نصفه. لكنّ الأم الحقيقية ترفض التجربة وتتنازل عن حقها إشفاقا على طفلها. وقد اعتمد المسرحي الألماني “برتولد بريخت” على هذه الحكاية في كتابة مسرحيته “دائرة الطباشير القوقازية” عام 1945. وفي هذه المسرحية يأمر القاضي “أزداك” بوضع الطفل المتنازع عليه ضمن دائرة، ثم تقوم المرأتان بشده وتلك التي تقدر على سحبه خارج الدائرة تفوز به، وهنا أيضا تتنازل الأم التي تحب الطفل أكثر، رغم أنها الأم (غير الحقيقية)، عن حقها خوفا على الطفل من الأذية.
لقد كان التاريخ المعاصر ظالما بحق سورية التي تجاذبتها قوى قطعت أوصالها. واليوم، وأمام التساهل في الحديث عن تقسيم البلاد، أخشى ما نخشاه أن يتحول الهزل إلى جد. إذ لا يبدو أن ثمة ما يمنع تكرار مآسي التاريخ، وسورية، كما تثبت الوقائع كل يوم، لا أم لها تحميها.