صفحات العالم

سورية: «مقاومة» و «توازن استراتيجي» ضد الشعب

 


خالد الحروب

رؤية الدبابات والمدرعات والمدافع وناقلات الجنود تحاصر المتظاهرين السلميين في المدن السورية (وفي البلدان العربية الأخرى في الحالات الشبيهة) تقدم صورة سوريالية تختلط فيها أحاسيس الحزن بالبؤس مع التفاهة العميقة لآلات البطش تلك. الجيوش التي من المفترض أن يكون هدفها الدفاع عن الأوطان والشعوب لا تتحرك إلا ضد هذه الشعوب ولقمعها. في سجل الهزائم الطويل الذي يثقل تاريخها البائس، النصر الوحيد الذي تحاول تسجيله هو ضد المدنيين العزّل من الناس البالغي الشجاعة والذين فاض بهم الذل ورأوا أن الموت في مواجهة الدبابات أفضل من استمرار العيش من دون كرامة وحرية. لم يحتج أحد إلى دليل على هشاشة وخواء شعارات «بناء التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني»، و «المقاومة» و «الممانعة» وكل ضجيج القاموس الثوري المعهود. كان تلقي الصفعات المتتالية من قبل إسرائيل من دون رد على مدار العقود الماضية، أكثر جلاء من أي دليل على ذلك الخواء. على رغم ذلك كله، علينا أن نقرّ، بأن علو نبرة «خطاب المقاومة» واستثمار ورقتها الفلسطينية خدما ببراعة النظام ضداً من كل ذلك الانكشاف.

مع وضوح كل تلك المخادعة التاريخية وعدم الحاجة إلى دليل، إلا أن تمثلها في صورة القمع والبشاعة الراهنة يأخذها إلى أمدية جديدة… ومدهشة. مكامن الإدهاش متعددة ويصعب حصرها ومنها مواصلة العزف على أسطوانة «المقاومة» و «استهداف سورية»، و «مؤامرة الغرب وإسرائيل»، وأكثر أوجه الخطاب الرسمي سخرية، واستطراداً، هو الوجه الديني الذي يحشد «علماء الدين» للدفاع عن قلعة الصمود، وهو في حد ذاته يستحق وقفة خاصة. تُرى من الذي يستهدف النظام في سورية إذا كانت كل «القوى الإمبريالية» العالمية منها والإقليمية وعلى رأسها إسرائيل تراقب الأمور بقلق عميق ولا تريد سقوط النظام؟ من الذي يستهدف النظام في سورية إذا كانت كل التصريحات «الإمبريالية» تلتزم اللين وتحذر من «إسقاط النظام» وأقصى ما تُطالب به هو إجراء إصلاحات؟ من الذي يستهدف النظام في سورية، إسرائيلياً، وإسرائيل تنعم بهدوء على جبهة الجولان على مدار أربعين سنة؟ الواقع أن الطرف الأهم الذي يستهدف النظام في سورية هو الشعب السوري نفسه. ناس درعا وحمص ودمشق والقامشلي والبيضة وبانياس وحلب وكل المدن والحواضر السورية التي شهدت قمعاً ستالينياً على مدار أكثر من أربعين سنة هو الأسوأ منذ عهد أسوأ خلفاء الأمويين.

من ناحية تاريخية هناك مقايضة كبرى قام عليها الاستبداد العربي، وعملياً معظم نظم الاستبداد في تجارب الشعوب، وهي تقوم على تحقيق إنجازات خارجية كهزيمة عدو خارجي مثلاً أو ترقية البلد المعني إلى درجة نفوذ عالمي، أو داخلية كإنجاز تنمية وتقدم واقتصاد ناجح، ومقابل ذلك كله يتم شراء سكوت الناس على استبداد حكامهم. منذ عهود الاستبداد الفرعوني ومروراً بكل الإمبراطوريات التي مرت في تاريخ البشر يمكن أن نلتقط وجود هذه المقايضة أو المعادلة بتنويعات مختلفة. منظّرو هذه المقايضة دافعوا عنها كونها تحقق الاستقرار والازدهار للمجموعة البشرية المعنية وتحقق وحدتها، حتى ولو على حساب حريات أفرادها. هذا التنظير الذي ساد قديماً، وصار مرفوضاً في هذه الأيام، لم يخلُ من منطق ما إلى هذه الدرجة أو تلك وفق الحالة. ولم تتحطم الأركان الأساسية لهذه النظرية إلا بعد بزوغ التنوير والحداثة السياسية التي فككت هذا الاشتراط القسري بين تحقيق الإنجازات وتبني الاستبداد، وقدمت عوضاً عن ذلك الحرية لكونها الأرضية الأكثر ديمومة للإبداع الإنساني. مهما نجح الاستبداد في تحقيق مستويات عالية من الإنجاز فإن قاعدته الاستعبادية هشّة، والدليل الحديث الذي ما زال يعيش معنا هو الاتحاد السوفياتي. التحدي الحقيقي هو البناء مع الحرية وليس على حسابها.

الاستبداد العربي الحديث، وفي مقدمه السوري والليبي، يريد تقديم معادلة ومقايضة من نوع مدهش وتخلو تماماً من أي منطق. يريد سكوت الشعب وتخليه عن حرياته وقبوله بالقمع وخضوعه لحكم حفنة منتفعة من الأفراد تحوّل البلد ومقدراته إلى إقطاعية ومنهبة دائمة، مقابل لا شيء! ليس هناك إنجازات خارجية أو داخلية يمكن هذا الاستبداد استخدامها وتوظيفها في الدعاية الديكتاتورية. أنظمة الاستبداد العربي عملت على إدامة التكلس والتخلف في بلدانها وجمدتهما في ذيل قوائم معدلات التنمية والتقدم بين بلدان العالم. لم تنشغل هذه الأنظمة بتنمية بلدانها بل استنزفت جهودها في أمرين: الأول هو المحافظة على موقعها في الحكم ولو أدى ذلك إلى طحن كل الشعب، والثاني النهب المتواصل وبناء بطانة تستميت في دفاعها عن النظام لأنها وحدها المستفيدة منه. بأي حق يُطالب أي شعب عربي بقبول مثل هذه المعادلة وعلى أي أساس، ولماذا؟ ما هي شرعية هذا الأنظمة التي لم تقدم لبلدانها سوى التخلف والهزيمة، ولماذا تسكت شعوبها عليها؟

الشيء المدهش في الخطاب الرسمي السوري والليبي على حد سواء، هو الوقاحة الهائلة التي تتهم الشعب كله بالعمالة للغرب، فيما النظامان لم يتركا آلية «انبطاح» للغرب إلا ومارساها. جوهر السياسة الخارجية والاقتصادية والاستثمارية (والإقطاعية) في النظامين قامت في العقدين الأخيرين على استكشاف كل الطرق والوسائل لتقديم شهادات حسن السلوك للغرب. ارتهنت إرادات البلدين وبيعت مستقبلات الشعوب من اجل أن يحقق كل نظام من الاثنين رضا الغرب. كل تصريح يصدر من واشنطن أو أي عاصمة أوروبية فيه إشارة ولو بعيدة تقول إن النظام في سورية متعاون في هذا الموضوع أو ذاك، أو إن النظام في طرابلس يتأهل دولياً، كان يردده الإعلام الرسمي بفرح ساذج. ليبيا القذافي أنفقت مئات البلايين في صفقات تجارية مع الغرب، الخاسر فيها هو الشعب الليبي ومستقبله، وذلك بهدف وحيد هو رشوة الغرب للرضا عن نظام العقيد وأبنائه وبطانته.

جانب الإدهاش الآخر الذي يحفل به الخطاب الرسمي هو الاستغباء الفادح في الاعتماد على قصة «المندسين» و «العملاء» الذين ينظرون في كل الاتجاهات باحثين عن سيد يعرضون عمالتهم له ضد بلدهم وشعبهم. فجأة يظهر هؤلاء وللغرابة بعشرات الألوف ومئاتها. وكما شهدنا ملايين عدة من هؤلاء «المندسين والعملاء» في ميدان التحرير في مصر وقبلها في تونس نراهم اليوم في سورية وليبيا والبحرين والأردن. إذا كان هناك طرف يستحق الإعجاب في كل هذه القصة السخيفة فهو ذلك «المتآمر» العبقري الذي يقف خلف الستار ويستطيع أن يحرك هذه الملايين وفق ما يشاء وأنى يشاء. ولنا أن نقول إن هذا «المتآمر» الذي يمتلك هذه القدرة الخارقة على تحريك شعوبنا وجعلها تنقلب على أنظمتها لا يستحق التقدير والاحترام فعلاً بل يستحق أن يقلب نظم الحكم ويكون في مكانها أيضاً!

في عهد الإعلام المعولم وانكشاف خواء كل مكون من مكونات الخطاب الرسمي العربي، الثوري منه والتقليدي، يغيب عن العقل الاستبدادي العربي انه ما عاد بالإمكان ممارسة القمع كما في سابق الأيام. نحن الآن في عهد الكاميرات المفتوحة التي حولت المجرم إلى جبان ترتعد أطرافه عند القيام بجريمته. لم يعد بمقدور أنظمة البطش البوليسي أن تقترف جرائمها كلها في جنح الظلام ولا أحد يدري. تكنولوجيا العصر الاتصالية والتواصلية والتي استغلتها الأنظمة في تكريس آليات الهيمنة والسيطرة هي ذاتها التي تمكن اليوم الأفراد العاديين من مواجهة القمع وكشف جرائمه، في تأكيد متأبد على المنطق الهيغلي المنتج الشيءَ ونقيضه، مضموناً وأطرافاً فاعلين. مقابل كل مسدس في يد واحد من «الشبيحة» هناك تلفون نقال وكاميرا مفتوحة يحضها صدر أعزل. ولأن المعركة ليست في جوهرها بين المسدس والتلفون النقال بل بين ذلك الصدر الأعزل العامر بالإرادة والتوق للحرية والكرامة، وتلك اليد الموتورة المرتجفة المساندة للاستبداد، فإن النصر يكون دوماً لإرادة الحرية. هذا منطق التاريخ ومنطق الحياة ومنطق المستقبل.

* أكاديمي ومحاضر – جامعة كامبردج، بريطانيا

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى