صفحات الثقافة

سورية .. أستاذة الحياة/ زياد خداش

 

 

(اختفاء سورية).. لا أظن عربيا، أو شخصا حرا وشريفا، لا يرتعب من مجرد سماع هذه الكلمات التي رددها، أخيراً، محللون إسرائيليون وأميركيون. قالوها ببرود مفزع، وكأنهم يتحدثون عن اختفاء سفينة في عرض البحر، بسبب العواصف، أو غياب طائرة عن شاشات الرادار بسبب سوء الأحوال الجوية. من السهل جدا قول ذلك، لشخص لم تلمس يداه وجه سورية، لم يتذوق طعم الشام. كيف نشرح للغريب إيقاع الشام، وعمق الشام وتنوير الشام وأصالة الشام؟ كيف لشخص لم يرتد ليل الشام، ولم يصعد قاسيون الشام، ولم يفهم جماليات تنوع الشام أن يتحدث عن (اختفاء سورية) بهدوء عجيب، ثم يذهب إلى البيت، يتعشى مع زوجته، متبادلاً معها النكات وأخبار الطقس، وأحوال الأولاد في المدرسة، ثم يتفرج معها آخر السهرة على فيلم السهرة: (موت السوريين في البر والبحر)؟

أي نذالة في التنبؤ باختفاء تاريخ، ونهاية شعب؟ أي سطحية في اللغة وجهل في الرؤية؟ أي سادية في إهانة الشام وشعب الشام، وثورة الشام؟ ربما تتمزق الشام، ربما تُصاب بذبحة صدرية، ربما تتعب أو تدوخ، أو يغمى عليها قليلا، ربما تفقد كثيراً من وزنها، وتُنقل للعناية المكثفة، لكنها أبداً لا تموت. يا إلهي، كيف تموت الرغبة في الحياة، الشام هي الرغبة الرشيقة في العيش، هي مدرسة للعيش، تعلّم الشام العالم أساليب التفنن في العيش، فكيف يموت بسهولة أستاذ الحياة؟ يموت السوريون بغزارة وبسهولة في كل مكان، مثلما مات آلاف الألمان والبريطانيين والفرنسيين في الحربين الكونيتين، في كل مكان، لكن بريطانيا وفرنسا وألمانيا لم تختف، واصلت الحياة، على الرغم من كل الدم، الدمار والخوف.

يتمنى أعداء الحياة لأستاذة الحياة الموت، بقاء الشام على قيد الإبداع والحياة يقضّ مضاجع كثيرة، ثورة الشام ضد الطغاة لا تعجب كارهي حرية الشام، ديمقراطية الشام المحلوم بها لا تروق لأعداء الديمقراطية، بقاء الشام في قبضة الاستبداد هو ما يتمناه كارهو الجمال السوري، ومحللو الخراب الكبير ومنظّرو الموت المفزع، على الرغم من كل الادعاءات العلنية في رفض الاستبداد والدعوة إلى حرية شعب الشام وسيادته. كلنا نتذكّر أمنية إسحق رابين، قبل سنوات بعيدة، في أن تغرق غزة في البحر وتختفي. هكذا، ببساطة تمنى محطم عظام شبابنا في انتفاضة الفلسطينيين تحطيم أعمار مليون ونصف مليون منهم، لم يفعلوا له شيئا سوى أنهم مصرّون على أنهم فلسطينيون، تلك هي عادة المستعمر التي لا تتوقف، وذلك هو ديدن القتلة المتوحشين، خانقي مصائر الشعوب ومصاصي دمها، وناهبي خيراتها، ومخربي وحدتها.

تخيلوا العالم بلا شام. تعالوا نتألم قليلا. ونتخيل الدنيا من دون شعر وماء وموسيقى وقهوة وشجر وياسمين وأنوثة. تعالوا نموت قليلا مع فكرة غياب الشام عن الوجود. أيتها الرغبة العنيدة في الحياة، قولي لنا من أبوك ومن أمك ومن جدك وجدتك؟ آه لو تتكلم الرغبة في الحياة، لقالت الكثير عن أستاذة الصف الكوني (الجمال)، إذا أردتم أن تصبحوا جميلين، ثمة وصفة واحدة، اذهبوا إلى الشام، وإن أردتم الشفاء من الكآبة وانسداد الأفق، ثمة دواء واحد هو (الشام)، إذا شعرتم برغبة في التخلص من آفة الإفراط في عشق بلدكم، ومن مرض اعتباركم إياها أجمل البلاد وأشهى الأراضي، وآخر الفتنة، ثمّة بلد واحدة تقنعكم بذلك: الشام.

أي عالم مختلّ هذا الذي يتمنى ويسعى فيه متوحشون لإخفاء دول وشعوب عن وجه الأرض؟ أي صعوبة في تحقيق ذلك؟

يا متنبئي خراب البلاد ونهايات البلاد: ادفنوا أحلامكم الشيطانية في قاع تنظيراتكم العفنة، فلا فرصة أبدا لتصور زوال بلاد الشمس والماء والياسمين؟

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى