صفحات العالم

سورية أمام العالم/ بيار عقيقي

 

 

هناك الكثير مّما يُمكن قوله، أو كتابته، في سورية وعنها، تحديداً عن طريقنا نحن الذين نقطن في أماكن بعيدة عن مناطق الموت والجحيم المتنقّل. يُمكننا أن نستولد جدالاً أو نُنشئ خلافاً فكرياً أو سياسياً مع أحدٍ بسبب سورية، لكن أكثرنا، بالتأكيد، سيخلد إلى النوم هانئاً في سريره، لا براميل متفجّرة تفاجئنا، ولا قذائف أو صواريخ أو غارات أو تفجيرات انتحارية أو قنّاص مختبئ يطالنا.

لسنا وحدنا هكذا، فهناك من يجد لذّة في التنقّل من بلدٍ إلى آخر، بحجّة مناقشة الوضع السوري، ويعيش البروتوكول والإجراءات المُتبعة وفق الطرق المملّة، بشغفٍ قلّ نظيره، تحت شعار “إنقاذ سورية والشعب السوري”. بعض هؤلاء يجتمع في العاصمة النمسوية فيينا، للخروج بحلّ، كان يُفترض حسمه منذ أمدٍ بعيد، إذا كان “حريصاً” على الشعب السوري. لا يُمكن لأي عاقل أن يتوقع الكثير، من دول لم تهتم يوماً لإنسانٍ، بقدر اهتمامها ببرميل نفطٍ أو خط مواصلات اقتصادية. يتجلّى ذلك في الاعتذارات الأخيرة لرئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير، في شأن العراق.

لم يصل العالم بعد إلى تلك “المثالية” التي يُمكن البناء عليها، من أجل مجتمعات أكثر إنسانية، فغرائزية “السياسة الواقعية” تبقى أقوى من “كمالية الإنسانوية”، في بُعدها الذي رُفع على منابر الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، باسم “شرعة حقوق الإنسان”. ذلك كله مجرّد نصوص كتابية. لا أكثر. وإذا كانت القارة الأوروبية التي يُفترض بها أن تُترجم تلك “الإنسانوية” ميدانياً، بحكم كونها القارة الأكثر ضجيجاً عسكرياً وسياسياً وإثنياً واجتماعياً في القرون الأخيرة، إلا أنها لا تزال، حتى اليوم، تدعو إلى نبذ العنصرية من ملاعب كرة القدم. تكفي هذه الحالة فقط، لفهم ما يجري في أروقة المفوضية الأوروبية في بروكسل، و”صعوبة” احتضان اللاجئين الوافدين من الشرق الأوسط وإفريقيا.

هذا في أوروبا، أما الولايات المتحدة، فلا تحتاج إلى براهين كثيرة للدلالة على استمرارية العنصرية فيها، من فيرغسون ـ ميسوري إلى قلب نيويورك مروراً ببالتيمور، وكأن كل جهود أبراهام لينكولن ومارتن لوثر كينغ، لإنهاء العبودية والرقّ والتمايز العرقي، تقف عند مداخل أحياء هارلم وبرونكس، والحدود الأميركية ـ المكسيكية. ويأتي تصدّر دونالد ترامب صفوف الحزب الجمهوري قبل الانتخابات الرئاسية العام المقبل، أبرز دليل على ذلك.

لا يخفي الروس عنصريتهم باسم “القومية”، وهو ما حصل غداة مقتل شاب روسي على يد أحد القوقازيين في موسكو، عام 2013، إذ ألقت الشرطة القبض، في حملة اعتقالات عشوائية، على أكثر من 1200 قوقازي في ليلة واحدة، لمعرفة قاتل الشاب الروسي.

ليس هذا فحسب، بل إن مشروع الحلّ السوري الذي لم يتبلور بعد، في انتظار مزيد من الجلسات والمناقشات، لا يلحظ، أقلّه تجميداً للقتال، على شاكلة الزبداني ومضايا والفوعة وكفريا، يُمكن من خلالها التأكد ألّا عمليات عسكرية تحصل، ريثما يولد الحلّ، غير أن هذا الأمر تحديداً لا يحصل، بل إن الاندفاعة العسكرية لقوات النظام، وبغطاءٍ جويّ روسي، تعمل وفق قاعدة “كسب المزيد من المناطق لتقوية شروط التفاوض في فيينا أو جنيف”. هذا المنطق بالذات يُثير القلق، لكونه يعني أمراً مماثلاً، لو كان الأمر معاكساً، فلا يقع الموت ولا تحصل المصالحة أو التفاوض إلا على دماء السويين.

من الطبيعي أن التزخيم العسكري المواكب للتزخيم السياسي سيستولد أمراً ما، قد لا يكون كما ترغب به أطراف عدة، لكنه سيؤدي إلى مقتل مزيد من السوريين وتهجيرهم. وفي حال فشلت المفاوضات الحالية، فإنها ستُكرّر فشل مؤتمري جنيف (1983) ولوزان (1984) بخصوص الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، والتي تلتها مستويات تدميرية أكبر في لبنان. وهو ما ينتظر سورية في حال لم يتجرّد العالم من “واقعيته السياسية”.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى