سورية: البيان الرقم واحد و”جيش الإسلام”/ زياد ماجد *
أصدرت منذ أيام مجموعة ألوية وكتائب إسلامية سورية (بعضها من الأكثر تنظيماً وحضوراً على جبهات القتال في البلاد) بياناً سمّته «البيان الرقم واحد» وأعلنت فيه تعاونها وفق حصرية الهوية والمرجعية الإسلامية ورفضها التمثيل السياسي للائتلاف الوطني وللحكومة الموقتة التي يهمّ بتشكيلها.
تبع ذلك التقاء 43 فصيلاً مقاتلاً وتشكيلهم «جيش الإسلام» بقيادة زعيم «لواء الإسلام» المشارك في البيان الآنف الذكر، والمتمركز في غوطة دمشق.
وقد تلت صدور «البيان الرقم واحد» ثم تشكيل القوة العسكرية المشتركة سجالات ونقاشات شارك فيها كتّاب وناشطون وسياسّيون عبّر فيها بعضهم عن تحفّظات أو انتقادات لمضمون البيان وخلفياته السياسية وتوقيته، وللتشكيل العسكري ولغة زعيمه محمد زهران علوش السجين السياسي السابق لدى نظام الأسد والمفرج عنه بموجب «عفو رئاسي» في حزيران (يونيو) 2011، بعد ثلاثة أشهر من اندلاع الثورة السورية.
الملاحظات التالية محاولةٌ لفهم البيان والتشكيل وملابساتهما، وتذكير بواحد من أبرز التحديات التي تواجه الثورة السورية منذ تحوّلها التدريجي الى كفاح مسلّح فحرب شاملة…
ويمكن القول أوّلاً إن البيان كما التشكيل الحربي تكريسان لواقع ميداني أخذ بالتبلور منذ أشهر طويلة، وعجّل في انقشاعه استمرار الضعف في الإمكانيات اللوجستية والمساعدات العسكرية الموضوعة في تصرّف الائتلاف الوطني وقيادات الجيش الحر المرتبطة به أو «غير الإسلامية»، بما زاد من عجزها السياسي ومن ضآلة ارتباطها بالقوى المتصدّية على خطوط النار لقوات النظام الأسدي وللميليشيات اللبنانية والعراقية المقاتلة الى جانبه. فبدت خطوات الائتلاف ومبادراته السياسية مفصولة عن الواقع العسكري أو قليلة التأثير فيه. وهذا بالضبط ما سعى البيان ثم تشكيل «جيش الإسلام» الى إبرازه إعلامياً وسياسياً، وعدم إبقائه أمراً واقعاً معلوماً – مكتوماً. وفي ذلك ما يشي بعزم على إرسال أكثر من إشارة سياسية.
يُعطف على هذا ثانياً، أن الإشارات المرسلة متعدّدة الاستهدافات. فثمة إشارة الى المعارضة السورية (الائتلاف) ترفض اعتبار الاعتراف الدولي بها كممثلة للثورة سبباً لمشروعيتها، وتفصلها بالتالي عن «الداخل» وما تعدّه «قياداته الميدانية». وثمة إشارة ثانية الى «الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش»، مفادها أن هناك قوى تفوقها عديداً وعدّة تنطق بالهوى الإسلامي، وهي الأجدر بحمل لواء الإسلام في سورية. وهذا يعني رفض ادّعاء «داعش» النطق باسم المشروع الإسلامي، ويعني أيضاً أن الصراع معها احتمال، وأن «النصرة» بعد انشقاق معظم «المهاجرين» (الجهاديين الأجانب) عنها والتحاقهم بنداء البغدادي، صارت قابلة للهضم داخل جسم إسلامي سوري المنبت، ولو أن حدوده الترابية/الوطنية غير مصرّح بها بعد بوصفها حيّز الجهاد الأوحد. وثمة إشارة ثالثة الى «المجتمع الدولي» بأن حديثه عن قوى «معتدلة» يدعمها صار حديثاً قاصراً. فالسأم من تردّده منذ عامين ونصف العام ومن محدودية الدعم الذي يقدّمه حتى الآن ومن تراجعه عن ضرب النظام بعد المجزرة الكيماوية، يعني أن لا حاجة لبعض الكتائب أو الألوية للبقاء على مسافة سياسية من «النصرة» منعاً للشبهات مثلاً، وأن لا فائدة من إضمار هويّات أو مرجعيّات طالما أن الأمر لم يسمح باستقطاب دعم يعدّل الكفّة. وهذا يطرح في ذاته إشكالية أساسية، ليست بالضرورة كاملة السلبية، مؤدّاها القدرة على التكيّف «الأيديولوجي» للكثير من الوحدات المقاتلة تشدّداً أو مرونة وفق توازنات القوى والمصالح على رغم حدّة الخطاب ومصطلحاته، مع حصر للتمايز بـ «داعش» بوصفها قيادةً وأكثرية عناصر من خارج الحلبة السورية.
أما الإشارة الرابعة فهي للقوى الثورية المختلفة غير الموقّعة على البيان. وفي التوجّه إليها مزيج من الترهيب والترغيب ومحاولة الاستقطاب من جهة، ورفع لسقف اللغة السياسية وتطرّف في الأهداف بهدف جعل التسوية معها إن فُرضت أقرب الى موقع الموقّعين نتيجة ميزان القوى العسكري من جهة ثانية.
الملاحظة الثالثة على حدثَي البيان والتشكيل متعلّقة بالتنافس السياسي الإقليمي بين أطراف خليجية تموّل الكتائب المقاتلة وتـــدعم معـــارضات النظام الأسدي. فإن بدا للوهلة الأولى أن «البيان الرقم واحد» يبدو قطريّ الهوى وفيه محاولة لتأكيد ممانعة الدوحة لإزاحتها عن التعامل في الملفّ السوري، فإن تشكيل «جيش الإسلام» ونـــواته «لواء الإسلام» الموقّع على البيان والأقرب في تحالفاته، على ما يُقال، الى الرياض خفّف من ثقل ارتباط الأمر بالتنافس الاقليمي، من دون أن يلغيه طبعاً، حتى ولو عُدّت خطوة الشيخ زهران (قائد التشكيل الإسلامي الجديد) تعديلاً في تموضعه أو طمعاً في لعب أدوار وساطة وتنسيق أو بحثاً عن مصادر دعم جديدة.
الملاحظة الرابعة مرتبطة بالتوقيت، في لحظة يكثر فيها الحديث دولياً عن «جنيف 2». ومن مؤدّيات التوقيت هذا إظهار مقدرة على العرقلة إن جرى التجاهل. وهذا كان ليفيد المعارضة المدعوة الى جنيف فتتذرّع به للتشدّد في مطالبها لو أن المناخ الدولي مؤاتٍ ولو أن قدرتها التنظيمية والديبلوماسية أرفع شأناً. لكن يُخشى في الوضع الراهن أن يؤدّي الأمر الى مزيد من الإضعاف لها والإرباك لداعميها مقابل نظام وحلفاء له أكثر تضامناً وتصميماً.
الملاحظة الخامسة متّصلة بسياق تطوّر المعركة مع النظام الأسدي وبأدبيّاتها، وبهول تفاجؤ «العلمانيين» أو «المدنيّين» أو حتى المسلمين المتديّنين السوريّين الذين نظّروا للهوية الوطنية للمعركة (في معزل عن خلفية المقاتلين العقائدية) بالبيان والتشكيل، ما يشير الى عمق الهوّة التي صارت تفصل أجساماً منخرطة في الثورة، والى تقسيم أدوار برز شيئاً فشيئاً منذ مطلع 2012 من دون قرار أو تنسيق أو حتى فعل إرادوي: الإسلاميون للقتال، وغيرهم لمواكبة المعارك كتابة وتوثيقاً وفناً وإعلاماً ومحاولة تظاهر وإغاثة.
وهذا تقسيم كان يمكن أن يبقى أقل تنافراً لو كانت القيادة السياسية الممثّلة للثورة مشتركة، ولو كانت للفعل الميداني قدرة تأثير متبادلة، والأهمّ: لو كانت للداعمين الخارجيين هواجس ديموقراطية أو لو كانوا حازمين كفاية في مسألة إسقاط الأسد في أسرع وقت. لكن الوقت هذا تحديداً، في طوله وفي كثافة القتل والوحشية فيه، تحوّل عامل تفكّك من ناحية، وعامل وهن لدى المكوّن العلماني، مقابل تصلّب إيديولوجي لدى المكوّن الإسلامي المقاتل نفّرهما من بعض من ناحية ثانية.
أما الملاحظة السادسة والأخيرة فتنطلق من سابقاتها، وتذكّرنا بمقولة يصعب التنكّر لها، وفيها أن أبرز سمات «العسكرة» للصراعات السياسية في المنطقة العربية منذ الثمانينات، تشير الى كون القوى المنادية بالإسلام السياسي هي الوحيدة القادرة على الاستقطاب والتعبئة والتضحية والتأقلم مع عامل الزمن، وأن جميع التشكيلات القتالية التي نشأت والحركات التي سمّت نفسها «مقاومات» كانت (وما زالت) إسلامية الهوى.
وهذا يشمل خريطتي القوى السنّية والشيعية على حدّ سواء. ولا سبب يجعل سورية خارج هذه السمة الغالبة، مهما تنوّع مجتمعها وانقسم عمودياً وأفقياً. فالاستعداد للموت والقتل لا يشبه الكتابة والرعاية الاجتماعية والرسم على الجدران، كما لا يشبه حتى التظاهر أمام عصابات أمنية قادرة على تحويل الاعتصام الى مجزرة. وتمويل الألوف المؤلّفة من المحاربين وتأمين وصول الذخائر لهم لم يعد ممكناً من خارج منظومات وأنظمة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتيارات الإسلام السياسي وشبكاته، أو على الأقل بشعاراته وطقوسه. وهذا يسري على الثوار السوريين، ويسري أيضاً على من يقاتلهم من ميليشيات متعدّدة الجنسية أرسلتها «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» لنجدة حليفها الأسدي…
بذلك، يتأكّد من جديد اليوم التحدّي الثوري السوري الأكبر وصلته الوثيقة بابتكار القدرة على الجمع بين «مدنية» الخطاب والبرنامج السياسي المخاطب لعموم السوريين وللعالم، و «إسلام» المقاتلين وقادتهم وهواجسهم الكثيرة. وهذا ما لم تقدّم أي تجربة في المنطقة العربية جواباً ناجحاً عنه بعد. والتجربة السورية لا تبدو في توازنات القوى فيها وفي الوضعين الإقليمي والدولي المحيطين بها جاهزة اليوم لتقديمه.
* كاتب لبناني
الحياة