سورية …الثورة الوضاحة الفضاحة/ أحمد فيصل الخطاب
في سورية ثورة، ثورة حقيقية غطت معظم مناطق الجغرافيا السورية، واستدعت التاريخ بكبرى مفارقاته وأحداثه، وشاركت فيها أجيال متنوعة في حراك مجتمعي واسع، طرحت أكثر القضايا الكبرى الخلافية منها والوفاقية، مثل قضية الهوية والحرية والعدالة الاجتماعية. ثورة شواهدها تاريخية، مظاهرات شعبية عارمة ضمت الملايين، وعشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين، والآلاف من المفقودين، واللاجئون والمشردون في الداخل والخارج بالملايين.
في سورية ما حدث ثورة هائلة سوف تنسحب نتائجها القريبة والبعيدة، ليس على الساحة السورية فحسب إنما على الساحات العربية وربما الدولية، هذا رغم أن بعض المثقفين المولعين ‘بالفذلكة السياسة’ لا يرون فيها أكثر من حراك مجتمعي ‘أو هبة جماهيرية’ أو’انتفاضة شعبية’، هذا في ما النظام لا يعترف بشيء من هذا القبيل: لا تحرك.. ولا هبة.. ولا انتفاضة.. ولا ثورة ولا ما يحزنون؟ إنها بكل بساطة مؤامرة كونية عليه، والمتآمرون هم حسب الأطوار: الفلسطينيون والمستقبليون، المندسون، الوهابيون، الأمريكيون، القاعديون، الإخوان المسلمون، السلفيون، الصوفيون، …وهلم جرا ،قائمةٌ طويلة بدأت ولم تنته بعد، وخليط عجيب غريب متناقض من المتآمرين المزعومين. عبثاً سوف يحاول المرء هنا أن يقارب هذه المقولة بلغةٍ سياسية، لأنها بكل بساطة لا تمت إلى علم السياسة بصلة، إنها شيء ينتمي بالأحرى إلى علم البارابسيكولوجيا لمريض نفسي مصاب بمرض البارانويا: توهم المؤمرات عليه من كل حدب وصوب، أو الشيزوفرينيا مرض فصام الشخصية أو..أو.. وفي مجمل الأحوال إذا كانت هناك مؤامرة ما فهي على سورية، سورية الشعب والوطن والمستقبل، وليس على هذا النظام البائس، الذي لا يحتاج لمن يتآمر عليه من الخارج لأنه بجهله وتخلفه واستبداده يبقى المتآمر الأكبر حتى على نفسه.
وبعيداً عن الثورة وعن النظام هنالك شرائح غير قليلة من المواطنين العاديين يشاهدون، ربما لأول مرة في حياتهم، بروز ظواهر غريبة، ومفارقات وتناقضات في الساحة السورية تستعصي أحياناً على الفهم، حيث بدأ يتسرب إلى نفوس البعض شيء من الشك في طبيعة الثورة ومآلها النهائي. لقد غاب ربما عن بال هؤلاء أن الثورة، التي تستحق اسمها هي مثل الزلازل تطلق بشكل فجائي وعنيف كل المكبوت الشخصي والمكنون الاجتماعي و’المخزون التاريخي’، الذي كان متوارياً في ظل القمع الشمولي، أي كل ما تختزنه الأرض من ماءٍ ونفط ومعادن وأحجارٍ كريمة، والعكس صحيح. ومن هنا يمكن القول ان تلك الظواهر التي تبدو غريبة هي بمعنى من المعاني طبيعية في سياقها التاريخي، طبيعية في ظل بيئة استثنائية هي البيئة الثورية الشاملة. إن من يراقب المشهد السوري ‘بعيون تقليدية’ سوف يذهل حتماً من حجم المفارقات والتناقضات، ففي هذا المشهد يختلط الثوري ونصف الثوري بالمتسلق والانتهازي، المعتدل بالمتطرف، الضحية بالجلاد، رجل الدين بالمشعوذ، المنظر بالمحرر، والثائر بالتاجر. ولكن من يقرأ تاريخ الثورات في العالم يدرك بلا عناء أن ما يجري هنا ليس ‘إستثناءً سوريا’، كما يتوهم البعض، فلقد عرفته شعوب عديدة قبلنا وسوف تعرفه بعدنا شعوب أخرى لا ريب. تلك قوانين التاريخ أو سنن الكون كما يقولون.
في الثورة الإنكليزية قام الزعيم الجمهوري أوليفر كرومويل بإعدام الملك جورج الأول، لكن التسوية التاريخية في هذا البلد المحافظ استقرت رغم الثورة على إبقاء الملكية، لكن ملكية منزوعة الأنياب تملك ولا تحكم، بحيث تحولت في العقود الأخيرة إلى ديكور.
في فرنسا كانت الثورة الأعظم، التي أعطت العالم ‘الإعلان العالي لحقوق الإنسان والمواطن’ والتي قدمت نموذج الجمهورية الديمقراطية، بديلاً عن الحكومة الملكية المستبدة، لكن هذه الثورة مرت بمنعطفاتٍ كثيرة وانتكاسات بدأت بانقلاب عسكري قاده نابليون بونابرت، معلناً نفسه امبراطوراً، ثم عادت الثورة لتحكم مع الجمهوريين، بعدها عادت الملكية والملكيون إلى الحكم من جديد مع لويس الثامن عشر وشارل العاشر، ثم عاد الجمهوريون من جديد إلى أن استقرت الأمور أخيراً لصالح الجمهوريين، والجمهورية الفرنسية الديمقراطية.
في الثورة الأمريكية سببت حرب الاستقلال التي قادها البطل القومي جورج واشنطن سقوط الآلاف من الأمريكيين، لكن ما كاد ينجز الاستقلال حتى وجدت الولايات المتحدة الناشئة حديثاً نفسها منحدرة في هاوية حرب أهلية لأربع سنوات، أسفرت عن سقوط أكثر من نصف مليون قتيل، بسبب محاولة بعض ولايات الجنوب الانفصال عن الاتحاد. ولقد أصر الرئيس ابراهام لينكولن وقتها على التصدي بالسلاح لتلك المحاولة الانفصالية، حفاظاً على الوحدة وانتهى الأمر بانتصار الوحدويين على الانفصاليين. وفي تلك الثورات كان هنالك كذلك إلى جانب الثوار متسلقون وانتهازيون، مزاودون ومناقصون، صادقون ومنافقون وحتى إرهابيون. كانت تلك شذراتٌ ووقائع استدعيناها هنا من باب التفسير وليس التبرير، كل ذلك لنقول انه يتوجب علينا اليوم النظر إلى المشهد السوري، ليس ‘بعيون تقليدية’ كما تعودنا حتى الآن، وإنما ‘بعيونٍ جديدة’ تقارب هذا المشهد في سياقه الشامل التاريخي – الجغرافي- الاجتماعي.
في سورية إذن هنالك اليوم ثورة، وهي ككل الثورات تعج بالمفارقات والتناقضات، ومهمة الثوريين والوطنيين هي بالضبط حل هذه التناقضات وإيصال السفينة إلى بر الأمان.
إنجازات الثورة
لم تكتمل الثورة السورية بعد فلا تزال أحداثها تتدفق في نهر القدر، ولكن هذه الثورة حققت حتى الآن إنجازات كبرى يمكن إيجازها بثلاثة:
أولاً: كسر جدار الخوف التاريخي لدى السوريين.
ثانياً: طرح القضايا الكبرى الوطنية والاجتماعية برؤية جديدة.
ثالثا: إحداث عملية فرز كبرى للقوى السياسية وللمواقع والمواقف على الصعيد السوري والعربي والدولي. وسوف نتوقف هنا قليلاً عند النقطة الأخيرة.
في عملية الفرز التاريخية، كان هنالك في البدء الإنسان السوري نفسه صانع المعجزة، لقد انقسم السوريون كما لم ينقسموا من قبل، وهذا ما يجري عادةً في كل حدث جلل، انقسموا على أنفسهم وبين بعضهم بعضا، ولقد أبرزت الأحداث المتلاحقة منذ قرابة ثلاثة أعوام ‘أنبل’ ما في الإنسان السوري بالنسبة للبعض، وفي المقابل ‘أخس′ ما في هذا الإنسان بالنسبة للبعض الآخر. ظهر الكل تحت ضوء الشمس سقطت أقنعةٌ كثيرة حين دقت ساعة الحقيقة وظهرت مفاجآتٌ مذهلة في الاصطفاف الكبير بين المعسكر المؤيد للفاشية (فاشية النظام) تحت مسميات وذرائع متعددة، حيث اختلطت الانتهازية بالعصبيات والمصالح ونقص الوعي السياسي بالخوف من المجهول، وبين المعسكر الوطني الديمقراطي من طلاب الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.
على المستوى العربي كانت الثورة السورية وضاحةً فضاحةً بامتياز. لقد عرت مواقف الكثيرين من المزاودين، خاصةً في صفوف اليسار ‘يسار آخر زمان’ الذي وقف في المحصلة داعماً لنظام بورجوازي فاسد ومستبد. كما عرت وفضحت بعض رافعي شعارات المقاومة والممانعة الذين يعرفون قبل غيرهم أن النظام السوري كان حارساً وفياً لحدود إسرائيل مع سورية طوال أربعين عاما، ولم يكن طوال عمره المديد هذا مقاوماً أبداً.
على المستوى الدولي أظهرت الثورة السورية الانهيار الكبير القيمي والأخلاقي والقانوني والسياسي، وبدا للكل لوهلة أن قيم الحق والقانون والحرية والعدالة هذه القيم الإنسانية السامية هي مجرد شعارات لا أكثر ولا أقل. لقد ارتكب النظام الفاشي السوري فظاعات ومجازر تصنف في القانون الدولي على أنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، في ما بقي الخمس الكبار في مجلس الأمن عاجزين عن أي تحركٍ فعال امام هذه الفظاعات، وبدا العالم كله (الحر وغير الحر) أسير لعبة المصالح الإستراتيجية والحسابات الجيو- سياسية، كل ذلك على حساب الدم السوري الذي لم يتوقف يوماً عن النزيف. والذين يلوحون هنا في بعض أطراف المجتمع الدولي بخطر الإرهاب الآتي من قبل بعض المتطرفين في سورية كان عليهم أن يعوا لو دققوا في التاريخ والوقائع أن جذر الإرهاب هو النظام الأسدي بالذات، فهو أم الإرهاب وأبوه ومعظم المجموعات المصنفة إرهابية، خاصةً في سورية والعراق ولبنان، هي من أبنائه الشرعيين وغير الشرعيين.
أخيراً على المستوى الشامل السياسي والفكري والديني ظهر الفرز الكبير، حيث رأينا رجال دين مسيحيين في سورية والعالم يقفون مع النظام الظالم ضد الشعب المظلوم، ويقومون عبر وسائل الإعلام ببروبغاندا حقيقية كاذبة لحشد التأييد للدكتاتور. كما شاهدنا رجال دين مسلمين يسبحون بحمد السلطان ‘عز نصره’ ويفبركون الفتاوى الكاذبة لدعمه.
وعلى الجانب المقابل برز رجال دين مسيحيون ومسلمون يمكن القول انهم يعبرون عن روح المسيحية الحقة والإسلام الحقيقي، بوقوفهم ضد الظلم والعسف والطغيان.
الإفلاس الكبير ظهر بصورةٍ أوضح في صفوف التيارات المسماة علمانية، في موقفها من الثورة السورية خاصةً، ومن الربيع العربي بشكل عام. لقد بات من الواضح اليوم أن كثيراً ممن كانوا يرفعون يافطة العلمانية هم علمانيون مزيفون، كان همهم الرئيسي التبرير للاستبداد في حين أن العلمانية لا تساوي شيئا في غياب الديمقراطية ودولة الحق والقانون.
أما التيار القومي الذي يزعم النظام السوري الانتماء إليه، فقد حدث في داخله ما يمكن وصفه ‘بالبلبلة البابلية’، حيث اختلطت الألسن وتعددت اللغات وبات من شبه المستحيل التفاهم.
الكل يعلم أن النظام السوري لم يسع إلى ولم يحقق أية وحدة طوال تاريخه. لنتذكر أنه خلال أكثر من ربع قرن من وجوده في لبنان لم يطرح على اللبنانيين أي مشروع وحدوي أو اتحادي، لقد اكتفى وكعادته باللعب بين الأطراف وتقمص دور الإطفائي تارةً ودور ‘البيرومان’ المهوس بإشعال الحرائق تارةً أخرى. في مكان آخر من ديار العرب يجب أن يعلم الجميع اليوم، خاصةً الوحدويين والقوميين أن النظام السوري كان ضالعاً حتى الرقبة في مؤامرة تقسيم اليمن في التسعينات من القرن الفائت، مقدماً الدعم للماركسيين في عدن، الذين اتخذوا آنذاك من سلطنة عُمان مقراً لهم، والذين خاضوا حرباً ترمي إلى انفصال الجنوب عن الشمال، لكن هذه المحاولة تكسرت على صخرة صمود الوطنيين اليمنيين وبقيت اليمن موحدة. وقد روى لي شخصياً مسؤول يمني رفيع المستوى تفاصيل هذا الموقف الشائن للنظام السوري آنذاك. لقد اعتمد النظام السوري سياسة التبديد بدل التوحيد في لبنان وشارك بقوة وبسرية وكتمان في مؤامرة تقسيم اليمن، وها هو اليوم بدل أن يحقق أي وحدة أو اتحاد، يدفع سورية نحو التقسيم أو التفتيت هذا ناهيك عن موقفه الشعوبي مع إيران ضد العراق. إن نظاماً هذا شأنه هو أبعد ما يكون عن العروبة والقومية والنزعة الوحدوية.
إنها معركة الفرز التاريخي الكبرى بين النقد المزيف والنقد الحقيقي، بين العروبة الحقيقية والعروبة المزيفة، بين الإسلام الحقيقي والإسلام المزيف (وكذلك المسيحية الحقيقية والمسيحية المزيفة) بين اليسار الحقيقي واليسار بساط الريح بين معسكرين كبيرين: معسكر العبيد ومعسكر الأحرار. والاختيار هنا ليس بسيطاً لأنه ليس بين نقيضين فحسب، المحافظة والتقدم اليمين واليسار، التجزئة والوحدة الخنوع والثورة، بل الاختيار اليوم هو أيضاً بين ثورةٍ وثورة يسارٍ ويسار، وحدةٍ ووحدة، عروبةٍ وعروبة ، وإسلام وإسلام، وعلى كل واحدٍ منا أن يقول كلمة فصل أمام كل اختيارٍ محير.
الثورةُ السورية العظيمة، مثلها مثل كل الثورات الكبرى في التاريخ هي التي أحدثت هذا الفرز التاريخي الكبير الذي سيشكل علامةً فارقة في التاريخ السوري والعربي وربما العالمي برمته. لقد كانت هذه الثورة، بالقول وبالفعل وعلى أكثر من صعيد، ثورة وضاحةً فضاحةً.
*معارض سياسي سوري مقيم في باريس
القدس العربي