سورية الثورة: في تمثيلها وقيادتها، دعم لا احتكار
فادي عرودكي
تناولت في المقال السابق الجزئية الأولى في مثلث المقالات التي أعتقد أن طرحها ضروري في هذه المرحلة المفصلية بعد مضي ستة أشهر على بداية الثورة السورية. ففي المقال الأول ذكّرتُ بأهداف الثورة المتمثّلة بالحرية والكرامة والتي لُخِّصت لاحقا بـتحقيق “الدولة المدنية الديمقراطية التعددية”، ثم ذكّرتُ بمبادئها الثلاثة: السلمية (اللاعنف)، المواطنية (اللاطائفية)، الوطنية (رفض التدخل الخارجية). ورغم بديهية هذه الأمور إلا أنّي آثرت التذكير بها للتأكيد على أن أي خطوة لاحقة يجب أن تكون في سبيل نفس الأهداف وضمن المرتكزات الثلاثة، وإلا فهي خطوة باطلة حتما لا تمتّ بصلة لثورتنا التي نعرفها. وفي هذا المقال سأتناول تفصيلا وتحليلا موضوع تمثيل الثورة وتشكيل قيادة لها خاصة في ضوء “عجقة” المؤتمرات والسعي لتشكيل مجالس “وطنية” و”انتقالية” و”ثورية”.
ثانيا: في تمثيل الثورة وقيادتها
إن الثورة السورية هي ثورة كل السوريين، وتهدف إلى تحقيق الحرية والكرامة لكل السوريين. وبالتالي فإنها بالضرورة غير إقصائية لغير المشارك في الثورة – يعني أن نتائجَها في الحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية سوف تعمّ من شارك في التظاهر، ومن لم يشارك في التظاهر، بل ومن شارك في قمع المظاهرات أيضا – وبالتالي فمن غير المنطقي أن تكون إقصائية للمشارك بالحراك الثوري في المقام الأول. هذا على صعيد نتائج الثورة، أما على صعيد تمثيلها، فإن كل سوري يدعم الحراك الثوري بشكل أو بآخر يحق له أن يدّعي أنها ثورته (ليس احتكارا بل انتماء). وبالتالي، فلا يمكن لأي جهة مهما كانت أن تدّعي تمثيل الثورة منفردة دون أن يفوّضها جميع من “ينتمون” لهذه الثورة بهذا التمثيل بوسيلة أو بأخرى. ومن الواضح أن تحقيق ذلك هو من الصعوبة بمكان، وربما يستحيل خصوصا مع الظروف التي يعيشها السوريون في الداخل من قمع وتنكيل تجعل عملية اجتماعهم بشكل حرّ ومرن أمرا صعبا. ومن هنا، يستحيل إيجاد جسم (سمّه ما شئت: مجلس، حكومة ظل، هيئة، أو غيرها) يدّعي تمثيل الثورة، فالثورة لا يمكن تمثيلها.
ومع انعدام إمكانية تمثيل الثورة، تنعدم معها إمكانية تغيير أهداف ومبادئ الثورة، فتغيير هذه الأهداف والمبادئ يلزم تفويضا من الثوار (كل الثوار، من يتظاهر ومن يقوم بأعمال أخرى غير التظاهر، في الداخل وفي الخارج)، وحيث أنه لا يمكن لأحد أن يمثّل الثوار جميعا (خصوصا في الداخل)، لذلك لا يمكن لأحد أن يغيّر من أهداف الثورة ومرتكزاتها دون أن يكون قد تطفّل حقا على الثورة. ولكن هذه المعضلة حقيقة تتيح جانبا إيجابيا يتمثّل في أن وضوح هذه الأهداف والمرتكزات، وشمولية الثورة لجميع المؤيدين، تسمح لأي جهة بأن تدّعي أنها جهة “تمثّل أهداف ومرتكزات الثورة” (وليست “الجهة” الوحيدة التي تمثّل أهداف ومرتكزات الثورة). معنى هذا الكلام، أنه ليس بالضرورة لأي جهة أن يكون لها تمثيل فعليّ على أرض الواقع (مع تحبيذ هذا الشيء طبعا) ما دامت تلتزم بأهداف الثورة ومبادئها ولا تدّعي احتكار هذا التمثيل. ومن هنا، يمكن إيجاد “هيئة” تمثّل هذه الأهداف والمرتكزات بالحد الأدنى من التوافق بين الأطياف والشخصيات والأحزاب والتنسيقيات المختلفة الداعمة للثورة السورية.
وبسبب ما ذكرته في الفقرتين السابقتين، يصبح إنشاء “هيئة” بدلا من “مجلس” هو الأقرب إلى الدقة والصواب، لأن “الهيئة” عادة يكون دورها داعما ومؤيّدا، بينما “المجلس” يحمل معنى تمثيليا يوحي بالقيادة، والقيادة لا تتحقق دون احتكار، ولا يمكن ادعاء الاحتكار دون إيجاد صيغة تمثيلية لمؤيدي الثورة وذلك شبه مستحيل بالمطلق. إن الزعم بأن هناك قيادة للثورة أو متحدثين باسمها يجبر السامع على الارتياب والشك، لأن “قيادة” كهذه قد تحرف الثورة عن أهدافها أو قد تغيّر من مرتكزاتها، وهذا شيء مشروع لو كان عندها تفويض من الثوار، ولكن مع استحالة حصول هذا التفويض “الكامل” لا يمكن لأي قيادة القيام بذلك.
ومع ذلك، وربما تحت وطأة الأحداث وقسوة النظام المفرطة، يسعى البعض لتجاوز المسميّات اللفظية، والانتقال إلى الخطوات العملية، وهذا أمر مفهوم ما دام هناك حفاظ كامل على المضمون. هناك تسارع الآن لتشكيل مجالس، وأصبح شكل هذه المجالس وأهدافها ودورها أهم من الوقوف عند تسميتها بـ”مجلس” أو بـ”هيئة” – كما يدّعي البعض، لذلك سوف أناقش ماهية “المجلس” الذي ينبغي توافره دون التسليم بصوابية التسمية، ولكن تجنّبا للتعقيد، واقترابا من واقعية الطرح وإمكانية تطبيقه عمليا.
بداية، يجب علينا جميعا أن نتسامح مع فكرة وجود أكثر من مجلس ما دام لا يمكن لأحد أن يثبت قدرته الفعلية المدعّمة بالأرقام على تمثيل الثوار، وما دام أن دور هذه المجلس هو التحدث باسم مبادئ الثورة وأهدافها ودعمها ماديا وإعلاميا وسياسيا. لا يكفي بيان من إحدى تنسيقيات “فيسبوك” أو لافتة تأييد في مظاهرة واحدة أو اثنتين أو حتى عشرة لادعاء مجلس ما احتكار التمثيل، فطالما تغيب آلية علمية تزودنا بأرقام دقيقة عن نسبة التأييد، يبقى كل هذا مظاهر حتما تشي بوجود تمثيل ما، ولكن لا يرقى لمستوى يتيح ادعاء الاحتكارية. لا شك أن قدرة السوريين على توحيد الجهود في مجلس واحد أمر محمود، ولكن هذا لا يعني أنه الحل الوحيد. إن مجلسا موحَّدا يجب أن يأخذ بعين الاعتبار تنوع النسيج السوري الاجتماعي السياسي الجغرافي، إضافة إلى تواجد العامل الجديد في الحياة السياسية السورية وهو العنصر الشبابي الميداني المستقل غير المؤدلج والمشارك في الحراك مباشرة في الداخل. معنى هذا أنه في مجلس موحّد يجب أن يكون هناك سوريون من كافة الأيديولوجيات الفكرية دون هيمنة لطرف على آخر، وكافة التنظيمات السياسية خاصة تلك التي ناضلت ضد الديكتاتورية لعقود قبل الثورة، وكافة الانتماءات الاجتماعية المكوّنة للنسيج السوري على اختلافها وتنوّعها، إضافة إلى الشخصيات المثقفة المستقلة المعروفة ذات الوزن الأكاديمي والحقوقي والمعرفي. ومن البديهي صعوبة تحقيق هذه المهمة في ظل الظروف الحالية، وفي ظل التنوع السوري الكبير على كافة الأصعدة.
لذلك يبدو الحل الأنسب هو التعامل مع وجود عدة مجالس بتكويناتها المختلفة وتشكيل مجلس موحِّد (بكسر الحاء وتشديدها) لهذه المجالس ربما يسمّى “مجلسا للحكماء” يتكوّن من شخصيات ورموز معروفة متواجدة بالخارج (لتسهيل اجتماعها)، على أن تكون هذه الشخصيات قادرة على التواصل مع الداخل، كما تقوم هذه الشخصيات بتمثيل مجالسها المختلفة في المجلس الموحّد. وظيفة مجلس الحكماء هذا الحفاظ على أهداف الثورة ومسلّماتها وضمان قيادة الثورة إلى بر الأمان. من العوامل التي يمكنها أن تسهّل عمل مجلس الحكماء قلة عدد أعضائه حيث لا ينبغي أن يصل العدد إلى العشرات كما نرى في المجالس الأخرى، كما أنه لكي يستطيع النجاح يجب أن يحوي أعضاء من فئات أربع: معارضة حزبية تقليدية، شباب ثوري مستقل، مثقفون معارضون غير حزبيين، وشخصيات مهنية تكنوقراطية مستقلة، وأن تعكس هذه الفئات التنوّع الاجتماعي الجغرافي الفكري لسورية على أساس الكفاءة. الأهم أن يدرك الجميع أن أي مجلس أو مجموعة مجالس ليست وصية على السوريين، ولا يمكنها الاضطلاع بدور الوصي، ولا ينبغي لأعضائها أن يأخذوا أدوارا قيادية في المرحلة المباشرة لإسقاط النظام في سورية. يعني بعبارة أخرى، أهداف أي مجلس ينبغي أن تكون قيادة الثورة إلى بر الأمان وليس حكم سورية انتقاليا. إن تشكيل حكومة انتقالية ينبغي أن يتم بعد إسقاط النظام وضمن أطر دستورية معروفة، ومن داخل سورية، وليس في اسطنبول أو برلين أو باريس أو واشنطن. إن إسقاط النظام لن يكون باختفائه! النظام سيسقط عندما سيتم السماح بتداول السلطة ديمقراطيا عبر انتخابات نزيهة شفافة وتفعيل سلطة القانون بقضاء مستقل، وبالتالي في اللحظة التي يصبح فيها هذا متوافرا، تدخل سورية في مرحلتها الانتقالية.
سأترك الحديث عن الخطوات السياسية لإسقاط النظام إضافة إلى المرحلة الانتقالية وما يتعلّق بها من أمور إلى المقال القادم. ولكن قبل أن أختم، أريد أن أنوّه إلى بضع نقاط أساسية ربما تغيب عن الكثيرين عن قصد أو بغير قصد. في سعينا للتخلص من ديكتاتورية النظام، لا ينبغي أن نستعيض بديكتاتورية الثورة بدلا منها. وديكتاتورية الثورة تعني ممارسة القمع وإلغاء الآخر باسم الثورة. لقد قامت ثورتنا ضد التأليه، فلا ينبغي أن نؤلّه ثائرا أو معارضا، ولقد قامت ثورتنا ضد الكذب والفساد، فلا ينبغي أن نتغاضى عنهما (وتمويل نشاطات المعارضة شيء أساسي في هذا المجال)، ولقد قامت ثورتنا ضد احتكار الرأي والتخوين، فلا يجوز أن يصبح رأيا معيّنا هو الرأي الصائب وأنه من انتقد الثورة أصبح مع النظام. انتقاد الثورة وثوارها جزء من الثورة. ما ثُرنا على استبداد حتى نعيش استبدادا من نوع آخر. فلنتذكّر جميعا أن النظام الذي نحاربه هو نفس النظام الذي قام بـ”ثورة” عام 1963 ضد “الإقطاع والاستبداد” وهو نفس النظام الذي قام بـ”الحركة التصحيحية” عام 1970 ضد “الظلم والفساد”، وفي كلتا الحالتين تم إعدام أو حبس من “اعترض على الثورة” .. ولسنا في صدد استبدال استبداد باستبداد. نقدّر الشباب الذين يضحّون بحياتهم في سورية، وهم أساس الثورة، ولكن هذا لا يعطي رأيهم القداسة، ولا يمنحهم حق إقصاء معارضين ناضلوا عقودا عديدة ضد طغيان النظام. فلنتذكّر هذا جيدا، ونكمل في المقال القادم. عاشت سورية حرة!
http://ramaqarabi.wordpress.com/