سورية: الثورة من تحت!
أمجد ناصر
يفاجأ المرء، اليوم، بعدد المؤلفات التي وضعها باحثون أجانب عن سورية، خصوصاً تلك المتعلقة بحقبة حزب ‘البعث’ المديدة (1963 2012!). ولمن هو ليس أكاديمياً مثلي ولا متخصّصاً بـ ‘الشأن السوري’ فإن حجم المفاجأة مدهش قياساً بفقر المكتبة العربية لمؤلفات تتناول هذه الفترة الحاسمة من التاريخ العربي الحديث، ولولا إطلالات الناقد والباحث صبحي حديدي (الذي ينوِّع في كتاباته ببراعة بين الأدبي والسياسي) على ما يكتبه الأكاديميون والصحافيون الأجانب (الأمريكيون تحديداً) وتنقيباته في اطروحاتهم لما وقفت، شخصياً، على مدى الاهتمام الذي توليه الدوائر الأكاديمية والبحثية الغربية للشأن السوري. المذهل في أمر هذه المؤلفات المكتوبة عن سورية ليست هي، بحد ذاتها، ولكن، أيضاً، متواليات مراجعها المعنية بالبلد، كأننا، والحال، أمام كتب تتناسل من كتب وهكذا دواليك.
لم تكن سورية حدثاً عارضاً في الحياة العربية. ليست مكاناً طَرفياً لا يقدِّم ولا يؤخر في مصائرنا. لقد كانت، دائماً، مركزاً، أو طرفاً رئيسياً، في الحياة العامة للمشرق قبل العرب والإسلام وأثناءهما وبعد توطّدهما فيها وما طرأ عليهما من تحولات. لسورية مكانة لا يمكن تجاهلها في شؤون الحرب والسلم، الثقافة والفنون، التجارة والمبادرات الاجتماعية. وقد ظلت، بصرف النظر عن النظام الحاكم فيها، محجَّاً لأناس البلدان المحيطة بها ونقطة عبور يصعب تفاديها لحركة الناس والأفكار والسلع. وإذا كان التاريخ هو الذي يصعد بأمكنة ويهبط بأخرى فإن الجغرافيا، على حد قول الباحث الاسكتلندي رايموند هينبوش، هي التي كتبت قدر سورية التاريخي. ولكن ليست الجغرافيا الطبيعية فقط بل الجغرافيا البشرية كذلك، وليس خافياً التأثير المتبادل بين الاثنتين والجدل القائم بينهما وهو ما يسميه جمال حمدان ‘عبقرية المكان’.
هذه الأهمية الفائقة للمكان السوري نعرفها. فمثلما في كلِّ عربيٍّ شيءٌ مصريٌّ قادمٌ من الثقافة والفنون وبعض السياسة (في زمنها الناصري) فإنَّ في كلِّ عربيٍّ مشرقيٍّ شيءٌ سوريٌّ أيضاً، سواء تعلَّق بالأصل والنسب والجغرافيا التي تقطَّعت أوصالاً، أم تعلَّق بالأثر الثقافي والفني. ولكن معرفتنا بـ ‘المؤثر السوري’ لم تترجم مؤلفات ودراسات كما فعل الغربيون. الفارق بيننا وبين الغربيين، على هذا الصعيد، هو حرية البحث. قد تكون هناك دوافع غير علمية في هذا المسعى (وهي موجودة من دون شك) ولكنها تظل تحتكم الى معايير نفتقدها. لست، هنا، في وارد نفي وجود دراسات وأبحاث عربية تتناول أزمنةً سوريةً معاصرة. مثل هذه الدراسات موجود بالتأكيد ولكن الميل الى التسّييس عندنا قد يغلب على الطابع العلمي ما يجعلها تتراوح بين حديِّ المدح والقدح، التطبيل للنظام أو التشنيع عليه.
‘ ‘ ‘
أعترف أني لم أكن أعرف شيئاً عن ‘المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتجية’ في واشنطن. وقد لا يكون هذا المركز معروفاً لكثيرين غيري. لكن تطوراً غير متوقع، البتة، حدث في مدينة درعا السورية الجنوبية في الخامس عشر من شهر آذار (مارس) الماضي دفع بالشأن السوري الى صدارة الاهتمام العربي والعالمي وأدرج سورية في سياق رياح التغيير التي تهبُّ على العالم العربي رغم استبعاد رئيسها لأمر كهذا واعتباره في عداد المستحيل. وسوف يسجِّل التاريخ، على الأغلب، أنَّ الفتيةً الذين ‘شخبطوا’ بضع كلمات على جدران المدينة التي يعتبرها النظام ‘خزاناً بشرياً’ لحزب ‘البعث’ قد كتبوا، من دون أن يدروا، فصلاً جديداً في تاريخ بلادهم والمنطقة. ما حصل لأولئك الفتية بات معروفاً. وما جرى بعد ذلك نراه، يومياً، يرشح دماً من شاشات التلفزة.
لكن عدم معرفتي بمركز الدراسات السوري المذكور لا يعني أنه لم يكن موجوداً، أو نشطاً في بحثه ونشره لدراسات تتعلق بسورية. عدم المعرفة، أو حتى الاهتمام، من قبل كثيرين تهمهم أحوال سورية نابع من يأس بإمكانية التغيير في ذلك البلد. فبعد تحوّل ‘ربيع دمشق’ (لاحظوا أنه سبق ‘الربيع العربي’ بخمس سنين على الأقل) الى خريف سريع وكئيب وتمكَّن النظام السوري من اجتياز ‘عنق الزجاجة’، كما كان دأبه في أحوالٍ ومقاماتٍ سابقة، رسَّخ اليأس في قلوب أشدّ المعّتدين بتفاؤل الإرادة. تشاؤم العقل طغى على تفاؤل الإرادة. وهذا النظام الذي كُتِبَ له أن ينجو من أعاصير الداخل والخارج سينجو مرة أخرى.. ولكن إلى حين. هذا ما حدث في سورية حتى اللحظة التي خطَّ فيها بضعة فتيان شعار ‘الربيع العربي’ الشهير على جدران شوارع المدينة الجنوبية ‘البعثية’: الشعب يريد إسقاط النظام!
تلك هي اللحظة الفارقة في عمر النظام البعثي في سورية. وبعدها راح كلّ شيء سوريٍّ يطفو على السطح. طفقت أسماء القرى والبلدات التي لم يسمع بمعظمها غير السوريين تكرُّ. بدأت وجوه معلومة ومجهولة تظهر على الشاشات. أخذت نعوت وأوصاف تتدحرج. ظهرت قوى وأحزاب من جوف اليأس والنسيان، ولفِّقت أخرى على عجل. كلُّ أمر سوريٍّ مجهول أو ميؤوسٍ منه أو متوارٍ في الظلال البعيدة راح يتظهَّر ويكتسب قيمة. وكان من بين ذلك ‘المركز السوري للدراسات السياسية’ في واشنطن الذي يترأسه وجه بات، اليوم، معروفاً هو الدكتور رضوان زيادة.. والذي تلقَّفت نتاجاته دار رياض الريّس للنشر في بيروت. مجموعة من الكتب البحثية الرصينة راحت تصدر، تباعاً، عن دار الريّس كأنها كانت في قمقم. كأنها كانت موجودة على الرَّف وما إن جاء وقتها حتى ظهرت إلى العلن. آخرهذه المؤلفات كتاب الباحث الاسكتلندي المختص بالشؤون السورية رايموند هينبوش ‘سورية: ثورة من فوق’ الذي نقله الى العربية الكاتب والمعارض السوري حازم نهار.
‘ ‘ ‘
يتقاطع كتاب هينبوش مع كتب أخرى تناولتها في هذه الزاوية: صعود حزب ‘البعث’ إلى السلطة في سورية وتمكّنه من إدامة وجوده على نحو مديد ومحيّر، في آن، في بلد كان يوصف بأنّه مرجل اضطرابات سياسية. بهذا يتلاقى مع كتاب الباحث ستيفن هايدمان ‘التسلطية في سورية’. كما أنه يتقاطع، من زاوية بحثه في أدوات التسلّط وشعاراته، مع كتاب الباحثة ليزا وادين عن الخطاب والرموز في البلد نفسه. بيت القصيد في كتاب هينبوش أنَّ حزب ‘البعث’ أحدث في سورية ثورة من فوق على عكس ثورات تقوم بها الجماهير الشعبية وتقودها أحزاب سياسية نحو أهداف محددة (ثورة أكتوبر البلشفية في روسيا مثلا). لكن هذه الثورة التي جاءت ‘من فوق’ لم تكن منقطعة الجذور على الصعيد الشعبي، فقد تمكن حزب ‘البعث’ (السوري تحديداً) من صنع قاعدة اجتماعية مكونة، أساساً، من الفلاحين الناقمين على سلطة الاقطاع التي لم تستطع حكومة الوحدة (بين مصر وسورية) من وضع حد لها. لم يكن الفلاحون هم جمهور ‘البعث’ فقط بل انضمت اليه الأقليات الدينية كذلك. ففي سلطة تقوم على شعار القومية العربية، العابر للمحليّة وموازينها العددية، يمكن للدروز والعلويين والاسماعليين والمسيحيين أن يروا أنفسهم في المرآة، وأن يشكلوا لهم هوية بعيدة عن معيار الأكثرية والأقلية المذهبية أو الدينية. بالقومية تتساوى الأقليات الدينية والمذهبية العربية بالأكثرية العربية. تجد الأقلية والأكثرية قاسماً مشتركاً وجسراً لعبور معادلة العدد وما يترتب عليها من غلبة. لكن حكم ‘البعث’ لم يستند الى حزب فقط بل هو، إلى ذلك، قوات مسلحة وأجهزة أمنية (أخطبوطية) ومنظمات نقابية ومهنية استطاعت أن تخترق شرائح واسعة من الطبقة الوسطى وتحولها، مع الفلاحين والعمال، إلى قاعدة اجتماعية للنظام. تلك هي أدوات التحكّم في ما يسميه هينبوش ‘الفاشستية الشعبية’ التي تصنع قاعدة اجتماعية عريضة وتمارس، بالتالي، تحكّمها بهذه القاعدة.
مرَّ حكم ‘البعث’ في سورية بمراحل مختلفة لكن الأسس الأولى ظلت تمدُّ النظام بعناصر الاستمرار التي حيَّرت الباحثين. ففيما انهارت أنظمة عديدة تشبه النظام السوري في أوروبا الشرقية والعالم الثالث استمر نظام ‘البعث’ في حكم بلد ‘نمرود’ في طبعه واجتاز عاصفة إثر أخرى.. حتى جاء يوم فتيان درعا الموعود الذي قد يكون فارقاً في الرزنامة السورية. محطات عدة يتوقف أمامها هينبوش في عهدي الأسدين لكن يمكن اختصار تقييمه لعهد بشار، أو برنامجه ‘الإصلاحي’، بأنه محاولة لـ ‘عصرنة الاستبداد’، أي تحسين عمل النظام بحيث يمكنه البقاء والاستمرار وتوليد التنمية الاقتصادية اللازمة لضمان قاعدته.
هذا المشروع فشل كما نلاحظ الآن. فالاستبداد لا يمكن تحسينه لأنه يظل، مهما أجريت له من عمليات تجميل وترقيع، استبداداً. ثم ان ‘إصلاحات’ بشار الاقتصادية، على عكس مراحل ‘البعث’ السابقة، قلَّصت القاعدة الاجتماعية للنظام وصبَّ مردودها في جيوب بضعة منتفعين من العائلة أو من حلفائها.
وها هي الثورة تأتي، هذه المرة، من تحت. على عكس ‘ثورة’ البعث في العام 1963 التي جاءت ‘من فوق’. هذه الثورة تحدث، تحديداً، في القاعدة الاجتماعية للنظام ‘الاشتراكي’: الأرياف والبوادي والبلدات وهوامش المدن الكبرى.. ولا شيء يحول دون انتفاض المدن الكبرى (حلب، قلب دمشق) سوى هدير الدبابات وقطعان الشبّيحة.
القدس العربي