سورية: الحرب الأهلية أو المقاومة الشعبية!
مطاع صفدي
كل ثورات الربيع حققت بعض مكاسبها التأسيسية ما عدا الثورة السورية التي طال أمدها في الصراع السلبي، دون أن تكسر عنف النظام الذي أعلنت رفضه، والعمل على إسقاطه. ومع ذلك يمكن الحكم بموضوعية أن الثورة التي لم تنتصر على عدوها نهائياً، لكنها جعلته يعجز عن الانتصار عليها، بالرغم من فائض البطش والهمجية واللاأخلاقية واللاإنسانية التي يمارسها أوحش طغيان عرفه تاريخ القهر عالمياً وليس عربياً أو إقليمياً فحسب. هذه الحالة من افتقار الحل الحاسم لأي من الطرفين، لا يحتم توازن القوى ما بينهما، بل يعود الأمر إلى الاختلاف في طبيعة هذه القوى، في نوعية وسائلها المتباينة من فريق إلى آخر. لكن الثورة قد أكتسبت نصرها الأول ما إن انفجرت أحداثها وصدحت شعاراتها، حتى اعترف بها أوسع رأي عام عربي وكوني. إن وجود الثورة الذي تحول إلى مصطلح الصمود والنمو والانتشار، هو رصيدها الفعلي الذي يمكن اعتباره أهم ما يكتب لثورة ناهضة، وهو ديمومتها حتى نجاحها الأخير.
لا تنكسر الثورة والنظام الباغي لا يكف عن الفيض بكل آثامه المعروفة والمجهولة. فلم يسبق لسلطة غاشمة إن افتضحت فظائعها إلى هذا الحد من تحدّيها للوجدان الإنساني، ليس لشعبه وأمتّه فحسب، بل استهتاراً بكرامة القانون الدولي ومؤسساته العالمية. تلك التي لم تجرؤ على النطق بالحقيقة حتى لا تلزم نفسها بأقل واجبات الاحتجاج أو الإغاثة، وليس العمل الجدي على وقف المجرم عند حده. فما أبعد القرارات السياسية للمجتمع الدولي عن هموم الشعوب المعذبة. بينما تتعارف الشعوب من خلال أحوال التعاطف العفوي الذي تثيره فيما بينها مآسٍ متشابهة؛ لكن الأنظمة الحاكمة تجعل مشاركات شعوبها في نجدتها لبعضها. مقنَّنةً سلفاً بممارسة الدبلوماسيات المتعارضة؛ ومقاييسها شبه السرية. وحتى لا نذهب بعيداً مع التعميم، نلاحظ أن ثورات الربيع العربي، رغم وحدة الهدف في الصراع ضد أنظمة الطغيان المتماثلة، إلا أنها ـ هذه الثورات ـ لا تكاد تتواصل مع بعضها؛ ليس ثمة تساندٌ بين السابق منها مع اللاحق، والأقوى منها مع الأضعف. ها هي الثورة السورية تجد نفسها تتقاذفها أنظمةُ عربية وأخرى دولية. كأنها مضطرة للتعاون مع أشباه عدوها، من حكومات ودول إقليمية أو عالمية. بينما تتفرج شعوب الأمة العربية الثائرة على بعضها؛ تكاد تتساوى جميعها في مستوى العزلة والانكفاء على الذات. وهي أحوج ما تكون لبعضها في لحظات الانعتاق من وحوش الاستبداد والاستغلال.
الحدس الشعبي في الوطن العربي نافر من عزلات ثورات (الأمة) عن بعضها، فهو يراها ظواهر لحركة واحدة. أسبابها مشتركة ما بين درجات الظلم والاضطهاد وانسداد المصير العام والفردي، وأهدافها متآلفة، متراوحة بين الحرية والتقدم والعدالة. لكن لكل ثورة وقائعها الخاصة المتأثرة بإمكانيات الكفاح المتوفرة من جهة، وصراعها مع أدوات القمع والعسف السلطوي من جهة أخرى. إنها الثورات التي لا تعرف هويتها. سلميةً أو عنفيةً، قبل أن تنخرط في معاركها اليومية. هذا ما يحدث للثورة السورية التي لم تصمد فحسب ضد عدوها القهّار، بل ما تزال صامدة ضد عنفها الذاتي، متمسكة بقوة الكفاح السلبي، حتى عندما تضطر للتنسيق مع حماتها من العسكريين المنشقين، لكن عندما يعلن النظام حرباً حقيقية شاملة فإنه لا يتبقّى للمجتمع الثائر إلا حقَّه الأخير في اللجوء إلى الحرب الشعبية، إلى المقاومة المشروعة باعتبارها ليست فقط تعبيراً عن حق الدفاع عن النفس ضد العدوان الهمجي اللاشرعي، بل تغدو المقاومة بكل وسائلها. واجباً إلزامياً، تفترضه شرعة المواطنة السوية، عندما يصبح كيان الدولة والمجتمع مهدداً من قبل عدو الداخل الذي قد يتجاوز عدو الخارج، في نوعية أخطاره اليومية، المستهدفة للمصير العام، في عمق جذوره الإنسانية والحضارية، لصالح زمرة إجرامية قاتلة.
هنا ينبغي التمييز بين المقاومة الشعبية والحرب الأهلية، بل لعل الأولى هي المانعة للثانية. وقد أصبح النظام الخائف من سقوطه المتدرج، بوعي أو بدونه، مندفعاً في تيار الاقتتال الأهلي، جاراً مواقع الثورة نحو التحول إلى خطوط فصل وعزل ما بين قطاعات أهلية كانت متداخلة ومتآلفة عفوياً وطبيعياً. بينما تجد الثورة نفسها منساقة في خيار تاريخي محتوم تعرفه الشعوب الثائرة عندما تضطر إلى خوض حروب تحرير بأساليب تنظيم المقاومة الشعبية؛ فقد برهنت معطيات الأزمة السورية أن الثورة لم تعد تكافح نظاماً سياسياً، تختلف مع أهدافه وآلياته. بل إن صراع هذا النظام ضد أبسط معارضة باسم المصلحة العامة، أدّى به إلى مضاعفة القمع الجذري، دون التخلي عن الاستئثار الفئوي الأضيق بكل فعالية أو مؤسسة، أو في الإدارة لكل شأن عمومي وقطاعي، وحتى فردي. فأية جدوى لإصلاح دولة، مقبوض على مفاصلها بأقذر أيد للأمن والفساد معاً.
بالمقابل، فإن الثورة السورية، بعد أن تجاوزت عصر المعارضة ودعاوى الإصلاح، أصبحت أمام المفترق مجدداً، بين المقتلة الأهلوية أو المقاومة الشعبية، قد لا يكون ثمة تمييز واضح بينهما في سياق صراع أضحى دموياً رهيباً في مختلف جبهاته، كما هو حال خارطتها الراهنة. لا يرجع التفريق بين النقيضتين سوى أن المقاومة الشعبية باتت تتمتّع بذخيرة من المبادئ والوعي المجتمعي لدى ثواّرها بحيث يطغى لديهم حسّ الانتماء للمواطنة على كل تصنيفية فئوية ضيقة، أو عصبية مذهبية جانحة. فقد عرّت عموميةُ الثورة أربابَ النظام من عباءة المذهبية التي يتخفون وراءها. عزلتهم فظائعهم عن السواد الأعظم من مثقفي الطائفة، صار هؤلاء متبرئين من مسؤولية جماعية يُقحمون تحت نيرها ظلماً وبهتاناً، في حين يعي شعب الثوار بالمقابل أن أية جماعة لن تتحمل أوزار شريحة ضالّة من أفرادها. فلا مسؤولية جماعية مقابل إجرام جماعي يرتكبه أشخاص محددون.
هذا الوضع الإنساني القانوني معاً جعل إدانة النظام تتخذ طابعاً عالمياً، عندما تُسْقِط ‘الأمَمُ المتحدة’ الشرعيةَ الدولية عن شخص الرئيس السوري بدعوته إلى التنحي فكأنها تصادق بذلك على ما أنجزته الثورة على طريق تجريد الرئيس من شرعية منصبه، وتحويله بالتالي إلى مجرد زعيم عصابة للقتل والنهب والتدمير، بعد أن تمَّ لها الاستيلاءُ على مقاليد دولة ومجتمع ووطن. فكانت أشبه باحتلال أمني وعسكري واقتصادي. تمارسه طغمة عدوة أشبه ما تكون بسلطة أجنبية غازية. فالقرار الدولي، إذ يسحب شرعية الرئيس، فإنه في الوقت عينه، يمنح الثورة صفة المقاومة الشعبية مكلّلةً بشرعيتها الإنسانية، كمكافأة مستحقة لها، واعتراف برصيدها من إنجازات التضحية اللامحدودة إلا بشرط التحصيل العيني الواضح لوعود التحرر الوطني الشامل. بوسائلها الدفاعية العلنية. كذلك فإن هذا القرار التاريخي حقاً، يجعل ‘الأمم المتحدة’ تسترد بنيتها الأصلية أو وظيفتها المسندة إليها عالمياً، في أساس إنشائها كبرلمان للشعوب المقهورة وسواها، وليس لدولها فحسب.
إن برلمان الشعوب هذا العائد إلى الممارسة القانونية السليمة، لم يكتف بنزع الشرعية الزائفة عن واحد من أواخر أنظمة الاستبداد العالمثالثي، وأشدها امتهاناً وقهراً لحقوق الإنسان عامة، وليس لإنسان مجتمعها المأسور وحده. لم يتوقف عند إعادة تأهيل منظمته، كأعلى سلطة ضغط وإنصاف عالمية حاكمة بالرأي الاختياري والحق المبدئي وحده. بل راح ويعارض سلطة العسف الدولاني لأصحاب الفيتو الخمسة في ‘مجلس الأمن’؛ إن تصويت العدد الأكبر من أعضاء الجمعية إلى جانب حق الثورة السورية في تغيير نظامها القمعي الهمجي، لا يعيد تأهيل ثقافة حركات التحرير الوطني من الاستعمار الأجنبي وحده، بل لعلّه يجدد عصر التحرر الوطني من أشكال الهيمنة الأهلية التي هي بمثابة استعمار داخلي قد يتفوق على فظاعات أصله السابق وعرّابه الدائم، ذلك الاستعمار الخارجي الأجنبي.
الربيع العربي وفي مقدمته تبرز الثورة السورية، سوف يكتسب رِيادَة القطيعة الأنطولوجية مع تلك الحقبة المشؤومة. الموصوفة بسيطرة نموذج الدولة الأمنية على حركات التحرر الوطني لمجمل دول العالم الثالث، والعربي في مركزه. وقد كانت مهمة هذا النموذج هي إجهاض النقلة النوعية من مجتمع الاستعمار إلى مجتمع النهضة، ما يعني امتداد الهيمنة من سطوة الاحتلال العسكري الأجنبي إلى ابتكار أشكال الاحتلالات البوليسية واللصوصية من قبل فردنيات وأقلويات محلية، مُسْتَعْبَدة بهلوسة المال والسلطان، طاغيةً على الأكثريات الساحقة من مجتمعاتها. كانت تلك هي حقبة امتداد الاستعمار الغربي إلى استعمار أهلوي، وكيلٍ للأول، ومحروس بسياسته، وذلك طيلة الحرب الباردة العالمية، ومن ثَمَّ إلى ما بعدَها. فالربيع العربي ليس عرضياً أو إقليمياً، إنه يستكمل التحرر السياسي من المستبد المستغل الأجنبي، بالتحرر الاجتماعي البنيوي من عدو الداخل الطبقي والسلطاني، بمعنى أن الربيع العربي يؤذن بلحظة تغيير كوني في أنطولوجيا العلاقات غير السوية ما بين الدول الأقوى والدول الأضعف. فحين يصبح استعمار الآخر مباشرة أو بالوكالة المحلية والإقليمية مستحيلاً، لا بد أن يرتدّ قهرُ الأقوياء إلى نحرهم. أي أن إنجاز إلغاء الاستعمار سوف يصحّح العلاقات الطبقية المختلّة لمجتمعات الدول الرأسمالية عينها. هذا هو المغزى الأنطولوجي العميق لما يسمّى بالأزمة الاقتصادية المستديمة في الغربين الأوروبي والأمريكي. إذ يشهدان معاً نهايةً تفوقّهما اقتصادياً إزاء عمالقة الانتاج الكمي والنوعي في الشرق، وعسكرياً، وربما جيوسياسياً كذلك إزاء المزيد من تحرر قارة الإسلام، بريادة غير مسبوقة ولا منتظرة غربياً على الأقل، من قبل الربيع العربي.
لكن هذا الربيع العربي بات مرتهناً بانحرافات كارثية نحو المقتلات الأهلوية أو الفوضى، إن لم تنتظم ثوراته المتتابعة في صيغ متقدمة واعية من المقاومات الشعبية. والمأزق السوري هو أوضح ما يعانيه الربيع العربي، إذ تتشخّص عبر ظواهره المتناقضة إشكاليةُ الثورة، كيف تكون ثورة في ذاتها ومن أجل ذاتها أولاً، واحدة متضامنة ما بين أسبابها ووسائلها وأهدافها حتى لا يتصورها الآخرون، كل الآخرين، المترصّدين لها، معها أو ضدها، أنها قد تصير أشبه بالفرس الحرون، يمتطيها كلُّ من هبَّ ودبَّ، وهو يحسب أنه قد تملّك من متْنها لوحده طارداً أدعياءها الآخرين، بينما يموت يومياً عشرات الشباب من أجل بقائها واستمرارها. فالغرب واستطالاته الإقليمية لا يزاولون يراوغون حول طرق المساندة، بالرغم من تظاهرهم بتبنيها، ومناصبتهم العداء للنظام القامع، عملاً بالمثل القائل: القوة التي لا تقدر على مواجهتها تحالف معها ليخلو لك ظهرُها.
بين النظام الذي يفضل الحرب الأهلية على الانسحاب من السلطة، وبين الغرب وأعوانه الذين ينتهزون الثورة لإعادة استتباع البلاد والعباد معاً لقاءَ المساعدات الخبيثة أو الملغومة، ينتفض الثوار الشباب مجدداً كيما يعلنوا أوَان دخول الثورة مرحلة المقاومة الشعبية المنظمة. فالثورة استحقت هويتها الشعبية باعتمادها حتى الآن على كل من عامليْ القوة الذاتية والانتشار كمياً وعمقياً في الجسد الاجتماعي والوطن الجغرافي معاً. ما يعني أن البلاد أخذت على عاتقها أن تكون سيدةَ نفسها، وهي تخوض أنبل صراعِ وجودٍ تحت صيغة حركة تحرّر وطنية بكل ما ترمز إليه من دلالات الانتظام الذاتي وأخلاق التعبئة والتضحية معاً. كل هذه الذخيرة الرائعة قد اكتسبت موادها الأولية والإنسانية من صمود نضالي رهيب عام ضد أوحش قمع، ولكن من أجل أنبل سبب لبقاء إنسانية الإنسان، أقوى من وحوشها الضارية، فالتة من غابٍ إلى الآخر، وصولاً إلى أظلمها في قلاع الاستبداد/الفساد، الموشكة على الانهدام فوق عروش طواغيتها واحداً بعد الآخر..
‘ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي