سورية الصغيرة في نيويورك
الياس خوري
المكان: شارع واشنطن، بين حديقة باتري وشارع الأرز.
الزمان: 1880- 1940
الاسم: سورية الصغيرة.
كانت هذه المنطقة التي تقع في اسفل مانهاتن في نيويورك، جنوبي الموقع الذي سيُبنى عليه لاحقا مبنيا مركز التجارة العالمي، تضج بالحياة وروائح التوابل ودخان النراجيل، وعبير الحبر. منطقة حملت احلام المهاجرين السوريين واللبنانيين والفلسطينيين وخيباتهم، فقرهم وسعيهم الى الثروة، لغتهم ومشروع تحديث الأدب العربي، وتطويره. واصوات انبياء بلادهم التي وجدت اصداءها في نبراتهم النبوية التي تجسدت في ثلاثة كتب: ‘النبي’، لجبران، ‘خالد’ للريحاني، و’مرداد’ لميخائيل نعيمة.
العربي الذي يأتي الى نيويورك، يجب ان يذهب الى ‘اتلانتيك افينيو’، او الى ‘بيريدج’ في بروكلين، من اجل ان يجد بعض ما تبقى من سورية الصغيرة، من دون ان يدري ان هذه المنطقة ولدت في مكان آخر، وانها عاشت مرحلة صعودها في عشرينات القرن الماضي عندما تاسست ‘الرابطة القلمية’، ومن خلالها ابتدأت موجة ادبية كبرى، تبنت الرومانطيقية في الشعر مع جبران وابي ماضي، واقتربت من النقد العقلاني الحديث مع ‘غربال’ ميخائيل نعيمة، واحدثت عاصفة كبرى في المشرق العربي. وبصرف النظر عن مرحلية أغلب نتاج ادباء الرابطة القلمية وآنيته، وادعاء النبوة في نتاج بعضهم، فإن توهج البداية الذي طبع اعمالهم، يثير الكثير من الشجن، خصوصاً اذا عقدنا مقارنة بين توهج سورية الصغيرة في بدايات القرن المنصرم وببن الأسى الذي تثيره سورية الكبيرة في بدايات القرن الحالي، وهي تعيش مأساة مواجهة الوحش الاستبدادي بكافة تلاوينه. ما لنا وللأسى الآن، مساء الأربعاء 15 ايار/مايو، اقيم لقاء ادبي وفني حول ادباء سورية الصغيرة، في بيت الشعراء في مانهاتن. وذلك بمناسبة المعرض الذي يقيمه المتحف العربي الامريكي (ديربورن) في نيويرك تحت عنوان: ”.
استمعنا في هذا اللقاء الى قصائد لجبران وابي ماضي ونعيمة والريحاني، اضافة الى قصيدة ليوسف الخال، وقصائد لشعراء عرب امريكيين من الجيل الجديد يكتبون بالانكليزية: سهير حمّاد وجوزف عواد ودي. اتش. ملحم وناتالي حنضل ونعومي شهاب ناي، وخالد مطاوع واسماعيل الخالدي، اضافة الى تقديم رالف خوري المسهب، وغناء سلمى حبيب واحمد جمال، وساهم في القاء القصائد نجلا سعيد واسماعيل الخالدي.
كانت لحظة امريكية نادرة، ان نستعيد الشعر في المكان الذي كتب فيه، وان نقرأ رحلة المهاجرين القادمين من الساحل السوري اللبناني الفلسطيني، وهم يحملون الكشة في اعناقهم، ويحلمون ب’وطن النجوم’، كما كتب ابو ماضي.
في ذلك الزمان لم تكن الحدود قد ارتسمت في البلاد، كان اللبنانيون والسوريون والفلسطينيون موحدين في حلم بلاد آن لها ان تولد من ركام الأزمنة، وكان نور الشام يلف الجميع بوهج الأمل، وكانت ذاكرة النسيان التي جاءت بعد مذابح 1860 الهمجية، تحاول ان تبنى ذاكرة جديدة لزمن النهضة الذي سيأتي.
نتاج المهجريين ودوره في الأدب العربي الحديث يحتاج الى قراءة جديدة اليوم، لكن نار الحلم الذي جعلهم يصنعون وطناً من كلمات، انتشر في الامريكتين، لتنشأ ‘العصبة الاندلسية’ في امريكا الجنوبية، وتكون صوتا رفد الهوى الرومنطيقي الذي صنع تلك البدايات.
أغلب الظن ان اختيار تاريخ 15 ايار/مايو لهذا اللقاء كان وليد المصادفة. لكن ذكرى النكبة الفلسطينية المستمرة منذ خمسة وستين عاما كانت تظلل المكان، اسى يرتعش في العيون وهي ترى من قلب سورية الصغيرة التي كانت، سورية ولبنان وفلسطين، وهي تغرق في الدم الذي لا يجف، وتعيش زمنا من المواجهات العنيفة، التي تعلن صعوبة الولادات.
اوطان تتمزق امام اعين اهلها، ديكتاتور سفّاح في دمشق، ومحتل متوحش في القدس، وجنون طوائفي وثورات لا تملّ من بداياتها المعجونة بوحل التاريخ.
في لحظات الاستماع الى الشعر والموسيقى، اخذنا سحر البدايات الادبية الى براءته وسذاجته ايضاً، واستمتعنا بالفيلم القصير الذي اعده السينمائي بوب ماضي، حفيد الشاعر ايليا ابو ماضي، الذي يروي جزءا من حياة جده، ثم يذهب ليسأل الناس في بروكلين عن جده، بعضهم يعرف شيئا عن الشاعر وبعضهم الآخر لا يعرف، ذاكرة تموت وذاكرة تولد من جديد.
حفيد الشاعر لا يعرف لغة جده، وعندما سألته كيف ينتسب بلا لغة، ارتسمت ابتسامة حيرة على شفتيه، وقال انه يقرأ جده مترجما.
‘لِمَ لا’، قلت. فالأدب يفيض خارج لغته. وعندما استمعنا الى اغنية ‘اعطني الناي وغني’ بفيروزيتها ولحنها الذي استلهمه فيلمون وهبة من لحن ارجنتيني، او عشنا مع عبدالحليم حافظ اغنية ‘جئت لا اعلم من اين’، احسسنا كيف يفيض اللحن بالكلمات، وتصير الاسئلة استعارة لقلق البحث عن المعاني.
ماذا قالت لنا سورية الصغيرة في ذلك اليوم النيويوركي؟
اغلب الظن ان السيدة الفلسطينية عناية بشناق، التي شاركت قي الاشراف على تنظيم هذا اللقاء، وقدمته، لم تنس انه يوم النكبة، وان معنى النكبة الفلسطينية يلفّ اليوم بلاد الشام كلها، وان ذاكرة سورية الصغيرة تنحني للألم الذي تعيشه اليوم سورية الكبيرة في مواجهة آلة القتل الغاشمة التي تفتك بالشعب السوري، وتصمت امام القصف الاسرائيلي لدمشق.
سألتهم ولكن ماذا بقي من سورية الصغيرة؟
مشيت في شارع واشنطن لأعثر على ثلاثة امكنة فقط لا تزال تحمل أثر ذلك الزمن، الحي بأسره دمّر واجتاحته ناطحات السحاب، والسكان نزحوا الى بروكلين، تاركين بصمتهم في الكلمات والمجلات العربية التي انتجها المهاجرون وهم يصنعون ذاكرة الحنين.
بلى هناك ذلك الحجر. فعند ازالة الركام الهائل بعد انهيار مركزي التجارة العالمي بعد الهجوم الوحشي في 11 ايلول/سبتمبر، عُثر على حجر الزاوية لكنيسة مار يوسف المارونية التي ازيلت قبل الانهيار بأعوام طويلة.
لا ادري ماذا فعل الأسقف الماروني بهذا الحجر، لكنني رأيت التكريم الأكبر لسورية الصغيرة في موقع 11 ايلول/سبتمبر الذي تحول متحفا وحديقة.
على طرفي الحديقة بركتان ساحرتان صممهما المعماري مايكل اراد، اسماء ضحايا 11 ايلول/سبتمبر كتبت على جوانب البركتين. الماء ينبثق من آلاف الفجوات الصغيرة الموجود على اطراف البركتين، ماء ينبثق كسطور لا تنتهي، سطور تكتب الهباء قبل ان تغمر ارض البركتين وهي تمضي الى فجوة تبتلعها الى الأسفل. لست ادري اذا كان المعماري قد استوحى اسطر بركتيه من قصيدة ‘اعطني الناي وغني’.
كأنني لمحت جبران ينبثق من الماء مردداً:
‘اعطني الناي وغني/ وانسَ داءً ودواءْ
انما الناس سطورٌ/ كُتبتْ لكنْ بماءْ’.
القدس العربي