صفحات سورية

سورية.. الصمت عار


سعاد قطناني

الدم يغطي خارطة سورية ويرسم تلافيف الوطن من حارة إلى حارة ومن حي إلى حي… يذكرنا بأسماء كانت عالقة على أطراف الذاكرة ويرميها ساخنة في وجوهنا ليسأل: هل هذه هي دوما! أم هذا الركام هوالميدان! هذا المخيم! هنا المزة وهذه دمشق !! هذه سورية كل سورية! هل تذكرونها؟؟ لم يعد لرائحة الياسمين من مكان فرائحة الدم غطت على كل الروائح، دمار يتكئ على الدمار، هذه هي الصورة، وهذه هي الذكريات وهذا هو الوطن، جرارمن الدموع والألم.

الخوف يسيل من كل مكان مروراً بكل الحارات والشوارع والمجازر، الأشجار والأحجار، البيوت وأهلها، فكيف لروحي أن تنسى مجزرة كرم الزيتون أو ان تغيب عنها صورة الجسد المعذب لحمزة الخطيب؟ كيف لروحي أن تنام وهول مجزرة الحولة تطارد احلامي؟؟ كيف لروحي أن تنام وكل يوم هناك أماكن أخرى وصور لأطفال اخرين تحتل الذاكرة والروح المتعبة؟؟ ويلح علي السؤال كابوساً يغتال نومي…. يا حراس الموت…ألم تتعبوا من مطاردة قتلاكم…ألم تتعبوا من غسيل بقايا الدماء عن ايديكم آخر النهار…الم يكره ذلك الجندي بزته الثقيلة وسلاحه الأخرق وهو يذبح طفلاً غنى يوماً:’ حماة الديار عليكم سلام’؟ واليوم يحمل مديته ليشوه الذاكرة ويكمل الجريمة … يا أيها القتلة قولوا: كيف يتجدد الكره فيكم وتمتلئ صدوركم بكل هذا الحقد؟؟…كيف لكم أن تعيشوا كعصابة؟!…كيف تمر صباحاتكم وأنتم تقتلون كل يوم دون أن يُفسَد نهاركم.؟!.. كيف تنامون بعد أن تهدموا البيوت وترموا بامرأة تشبثت بابنتها دون أن يهز ذلك شعرة من ضمائركم.؟!.. كيف لذلك الجلاد أن يقتاد الرجال والنساء والأطفال إلى ظلمات الموت كل يوم ولا يتعب الظلم فيه! كيف لكم أن تحجبوا نور الشمس بجدران القهر دون أن تتعب عيونكم؟؟…كيف يمكن أن تكسروا العظام والرؤوس ولا تبكوا بعدها؟!…و كيف لسفاح أن يتصيد طفلة كانت تحمل في الصباح حقيبة الدرس، وفي اليوم الثاني يرسل ابنته إلى المدرسة دون أن تتعب الذاكرة من لحظة قتل الطفولة ؟!…أي قلب تمتلكون ؟ أين خبأتم كل هذه الكراهية والحقد؟؟ ومن زرع بذرة الشر في نفوسكم ؟؟ من أين أتيتم وإلى أين تذهبون؟ يبدو أن أسئلتي تذهب للعنوان الخاطئ…فهي يجب أن توجه لمن لديه ولو بقايا من ضمير… يجب أن توجه لمن ما زالوا يختبئون وراء جلباب الصمت الأسود كي يخبئوا جبنهم وخوفهم، لأن الصمت الآن عار…

هو جنون القتل والقاتل، لقد غطت غيوم القتل والخوف ليلي، لوثت فراشي، الليلة رأيت القاتل يحوم حول سريري، حاولت أن أصحو لأنفض الموت عن وجهي فلم أر سوى جثتي وأنتم يا أصدقائي تتحلقون حولي صامتين، صمتكم قتلني مرة ثانية…

تمر صوركم قريبة جلية واضحة ونحن نشرب الشاي في المقصف الجامعي، كنا نبدو وكأننا نتعاهد مع كل رشفة أننا سنبقى سوية يجمعنا حب الوطن وكرامة الإنسان.. لم أكن أعلم أن كلمات الحرية والكرامة وحب الوطن التي كنت أتقاسمها وإياكم لم تكن أكثر من شعار نردده كأغنية منسية أو كحروف أكلها الزمن، نسطرها على صدر دفاترنا وكتبنا ليس أكثر…. كنا فرحين حينها لأننا كنا نعلن اختلافاً عن المألوف دون أن يستدعي ذلك الاختلاف أي ثمن… لم أكن أعلم أنه عندما استدعي ذلك الاختلاف دفع الثمن انقسمنا وتشظينا، فالوقوف مع ثورة الحرية في سورية كان يستدعي دفع الثمن فكنا على طرفي نقيض بدعوى العقل والتعقل وحب الوطن…

ما يجري الآن يجعلني أعيد ترتيب أيامي معكم بل عمري كله، على ماذا كنا نتفق، وعلى ماذا اختلفنا؟؟ أذكر أننا اختلفنا في درجات تفاؤلنا وفي أمزجتنا ولا أذكر أننا اختلفنا للحظة على حب الوطن أو السعي من أجل الحرية؟ ما الذي جرى حتى انقسمنا على حب الوطن الآن!

ربما علينا أن نعود لتعريف الأشياء من أولها… ما هو الوطن؟ الوطن هو حفنة ذكريات تقاسمناها على رصيف الياسمين… هو ذكريات شجن بحنا بها في المتحف الوطني أو التكية السليمانية… هو بيت جمعنا ودموع سكبناها بسبب أو بلا سبب.. الوطن هو انعتاق من جدران الخوف ومساحة للحلم لا تنتهي.. هل حبكم للوطن يحمل معنى آخر وتجليات أخرى لا أعرفها؟ هل أصبح مفهوم الوطن الذي تريدونه يختلف عن الوطن الذي أريد؟؟ … لم نكن نختلف على أن الوطن هو الانتماء والكرامة، هو التاريخ والمستقبل الذي نحلم به … بل هو كل الذكريات الجميلة معكم وكل الأحلام التي كنا نسعى لتحقيقها … فلماذا اليوم نختلف!!! هل أصبح الوطن الذي تفكرون به مقترن بصورة القائد ورحيل هذا القائد يعني تحطيم لهذا الوطن؟

أصدقائي… مازلت أذكر التلة الصغيرة التي جلسنا عندها في الغوطة ونحن ننشد كل أغنيات الحرية، كانت تعلو أصواتنا، نغني ونبغض السجن والسجان في أغانينا، ونتشارك الهواء والسماء والحلم والحرية…

هل كانت الحرية حلما رومانسيا يطفو في أحاديثنا كزبد بحر زائل، أم هي جوهر وجودنا وتحقيقها يستوجب العمل والتضحيات؟ لماذا اليوم نحن مختلفون عما كنا عليه؟؟ هل هو القول الذي يختلف عن الفعل؟ لا أعرف ما جرى لضمائركم، كيف تبررون القتل بدعوى الخوف من الآتي؟؟ هل هذا الاختلاف والشرخ الذي صار بيننا هو نتيجة لسنوات طويلة عمل عليها النظام لشل إرادة شعب وقلب المفاهيم ليكون الصوت هو الخرس، والهدوء هو الموت، والأمن هو صمت القبور!! هل هو ذلك الخوف القادم من سنوات خلت حاول فيها النظام إقناع الجميع أن السلم الأهلي مرتبط بوجوده! فكثيرا ما سمعنا من أصدقائنا العقلاء حين مات حافظ الأسد إنهم خائفون مما سيكون عليه المستقبل … واليوم تعود مخاوفهم لتغطي المشهد وتمحي الدم المسكوب في كل مكان على ارض سورية وتبرر القتل وتعمي البصر والبصيرة، وتطفو بضع عبارات تقول: نحن خائفون من الغد فيما إذا رحل الأسد…

منذ انطلاقة شرارة الثورة، حاولت ان أبحث عن صدى لأحلامنا بالحرية، وحاولت استقراء الثورة في كلمات من تشاركت معهم الكثير، فكان الجواب منهم كصفعة لطمتني على وجنتي: بعضهم طائفيون غلفوا رفضهم للثورة بالعقلانية والمعقول، وبعضهم خائفون جللوا رفضهم للثورة بدعوى الأمن والأمان مستنجدين بالمثل الشعبي القائل: ‘اللي بتعرفوا أحسن من اللي بتتعرف عليه’! منهم من صنف الشعب على أرضية: هم ونحن ! ومن نحن؟؟ ومن هم؟ أليست سماؤنا واحدة! وارضنا واحدة ! أليس كل شيء يقودنا إلى وطن واحد وإلى حلم كنا نتشاركه كقطعة خبز!! من نحن وهل أنا من هؤلاء ‘الـ نحن’ أم من ‘الـ هم’؟ وكأن ما كنا عليه ما هو إلا وهم ومضى كسرب مهاجر…

آه يا أصدقائي … آه يا إخوتي كم يوجعني استخدامكم للعبارات والكلمات والمبررات والمنطق والعقل والمؤامرة حين يأتي الحديث عن سورية، وانتم من رقصتم لتونس وهللتم لمصر وغنيتم لليبيا واليمن، واليوم تصمتون وتدعون الوقوف على الحياد، هل توجد صورة أشد قتامة من الحياد حين يرمي الجلاد بحمم النار من جبل قاسيون فوق دمشق الياسمين والنارنج والذكريات!!

أصدقائي: لماذا نقف اليوم على طرفي نقيض؟ هل هو الخوف من الآتي؟ الخوف مشروع، فلقد تعودنا أن نخاف حين كنا نمشي في عتمة الليل من متلصص يحاول سرقة همساتنا عند ناصية الشارع؟ هل تخافون على الأمن الذي كنا نحظى به! عن أي أمن تتحدثون وفوهات المسدسات المعلقة على الخصور كانت تزاحمنا على لقمة الخبز وطابور الباص وامتحانات الجامعة وعلى ما تبقى من كرامة! أم أنكم تتحدثون عن الحرية التي بقيت تطارد صديقتي أياماً وتلاحقها في الليل ككابوس أسود حين تجرأت وخبأت صديقة توارت عن عسس الليل والمخبرين!! هل تذكرون كم خفنا من مخبري اتحاد الطلبة حين توارينا وهربنا من ‘مسيرة عفوية’!

ربما لن يفيد الكلام الآن عما كنا عليه ولكن أخبروني عندما ينتهي عصر الطغاة ماذا ستقولون لأطفال سورية الذين عرفوا سكين القاتل قبل أن يعرفوا طريق المدرسة؟ كيف ستبررون صمتكم أمام عائلة قضت في مزرعة القبير في ليل الخوف والوحدة؟ ‘عصابات مسلحة’! هل هذا الجواب يكفي لكل الأسئلة المعلقة في جنبات ضمائركم؟!

فلتعلموا أن الأجساد الطرية التي قـُتلت ذات ليل غادر لن تغفر صمتكم… وكل ما يمكن ان نفعله لسنين ستمضي لن يكفي أمام حسرة أم وآهة أخت غمرت الأرض حزناً وألماً…لن يكفي كل هذا أمام أب عجز عن حماية أطفاله… لا يكفي أي شيء … صدقوني لا يكفي وجلباب الصمت الأسود لن يخبىء تواطؤكم لقتل البقية..

أبحث عن سبب واحد يبرر صمتكم الآن وخوفكم وربما تواطؤكم مع الجلاد… هل هو عادة الحفاظ على الأشياء كما هي دون تغيير أو تحريف أو انحراف عن صيرورة تعتقدون انها أزلية، أم استمرأتم الصمت خوفاً على الذات!’

واليوم لا أجد جواباً لصمتكم إلا كلمات عبد الرحمن الكواكبي في (طبائع الاستبداد) والتي كنا نرددها ونضحك طويلاً على صديقتنا التي كانت تحب اقتناء أشياء مهترئة عتيقة لا نفع لها: ‘يا قوم، وقاكم الله من الشر، أنتم بعيدون عن مفاخر الإبداع وشرف القدوة، مبتلون بداء التقليد والتبعية في كل فكر وعمل، وبداء الحرص على كل عتيق كأنكم خلقتم للماضي لا للحاضر: تشكون حاضركم وتسخطون عليه، ومن لي أن تدركوا أن حاضركم نتيجة ماضيكم، ومع ذلك أراكم تقلدون أجدادكم في الوساوس والخرافات والأمور السافلات فقط، ولا تقلدونهم في محامدهم! أين الدين؟ أين التربية؟ أين الإحساس؟ أين الغيرة؟ أين الجسارة؟ أين الثبات؟ أين الرابطة؟ أين المنعة؟ أين الشهامة؟ أين النخوة؟ أين الفضيلة؟ أين المواساة؟ هل تسمعون؟ أم أنتم صمّ لاهون؟’

أكتب هذه الكلمات واستذكركم يا أصدقائي ‘العقلاء، الصامتين، الخائفين’و يحز في نفسي أني وحيدة بحزني وفرحي وأملي…كيف انفرطنا وذرّتنا الرياح في لحظة الحقيقة … في لحظة الحرية…

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى