سورية الممانعة: لغة سلطة ومعايير مملوكية
نسيم ضاهر *
يحاول المرء جاهداً التنقيب عن منطق الممانعة بطبعتها السورية، فيحصد الخيبة والفشل جراء ندرة معدنه على مساحة اليابسة، وافتقاد أصحابه أدوات العصر الحديث في أصولها وطبقاتها. غير أن لكل ظاهرة قالباً يعين على مقاربة القائم في ذاته، والتمكن من نوعية محموله عبر المقارنة مع الأنماط المعهودة، والقياس عطفاً على منتجاته وتجلياته. فإذا ما نحَّينا كمال الإحاطة بالمنطق جانباً، آخذين في الاعتبار إشكالية مطابقة نهج الممانعة لمفهومه جازَ لنا الالتفات إلى دلالات اللغة المستخدمة للتعبير عن طابع وطبائع مبنيّة على معايير تختلف عن الشائع في حقل السياسة المتعارف عليه راهناً، والمواكب للتحولات.
إنَّ لأبلغ ما يشي بالمنسوب إلى هذه العصبة سالفاً، إنما يستوفي صدقيته من مآل الجاري على لسان رموز ومأذونين، لا يعوزهم تعريف بمقامهم وبالوظائف المسندة إليهم بعاملي الاستجابة لآلية المنظومة القاهرة والولاء. فحين يطل الرئيس القائد ويتنبأ جازماً بسقوط معظم القوى الفاعلة ضمن الأسرة الدولية، يأتي مقاله لا من موقع التقرير الأحادي الاعتباطي وحسب، بل يتعداه إلى رسم خريطة جديدة للعالم، موصولة بالكثير من العليائية النرجسية. كذلك، وعلى شاكلة المصغر المقتبس تراتبياً عن أصل، يذهب وزير الخارجية السورية وليـد المعلّم إلى نفي وجود أوروبا،
فحيث يعاني فريق الممانعة عزلة متمادية تكاد تخنق اقتصاد النظام الفردي، تضحي اللغة سلطانية، مثابة البديل المتخيل، الشافي من الأعراض العضوية والصعوبات. ولئن عرف الاقتصاد المعولم مرحلة من التباطؤ والانكماش في النمو، انبرى فاقد الرافعة، صاحب الحصاد الكارثي في غالب المجالات، يعوِّل على الأزمة المالية الدورية كخشبة خلاص، وفق قراءة بدائية كيدية تراهن على الخراب المعمم سبيلاً إلى جني الفوائد، والالتفاف على ضائقة مزمنة زرعت الفقر والعوز لدى أوسع شرائح المجتمع لديه بفعل السياسات المتهوِّرة وسوء الأداء. وفي ما يعود لقيام جبهة مناهضة للتدخل في شؤون دول سيادية كاملة الاعتبار، يجري حثيثاً اللجوء إلى محاور هجينة، معدومة التجانس والغايات المفيدة، بغية التغطية على الارتكابات الدموية في عقر الدار، واستدرار عطف زائف حدوده المقايضة في غير ملف، كما لو أن روسيا والصين على استعداد لمغادرة الحوار الدولي مع شركائهما، الأهم، كرمى لمقام رئيس دولة وراثية على شفير الإفلاس. أما في المجال الأضيق، فستحضر باقة من أميركا اللاتينية، بهمة الصديق الوفي هوغو تشافيز، بقصد تجميل اللوحة وتزيين نادي الاستبداد، لينقضي الأمر بصورة تذكارية لا تفك عزلة ولا تفتح أفقاً واعداً بالحراك.
هي لغة السلاطين العاجزة عن مواجهة حقائق الواقع، ولأن خريف البطاركة على الأبواب، لا جدوى من ضوضاء المفرقعات التي ترضي غرور نيرون ولا تحاكي سواه. فلقد ولَِّى زمن المعايير المملوكية في إدارة الشأن العام، وغاب معها ذلك الاحتكام إلى مصير القائد ومجده بوصفه ربان السفينة الذي لا يخطئ، وحجر الزاوية في البناء الدولتي الفريد. كيف لإعلام رسمي ممسوك بعناية أمنية فاضحة، ولديبلوماسية تحصي المعارضين في الخارج وتطاردهم، أن ينطليا على الرأي العام وأعمال القمع بادية للعيان؟
في الشوط الأخير من رحلة قادت إلى شفير الهاوية، يبدو جلياً أن التركيبة الحالية تسير بوتائر متسارعة نحو المجهول بعد أن أهلكت فرص التسوية، وبالتالي أحجمت عن بلورة الحلول. وإذ تثابر على إنكار زخم الانتفاضة وصلابة المعارضة على الرغم من التنيكل والإغلاق، فهي في صدد استنزاف داخلي عميق يهدِّد بخسارة من وقف محايداً، وراهن على استعادة الاستقرار. إنّ ثمة حسابات تتناول فائدة بقاء السلطة في صيغتها الراهنة، منطلقها اقتصادي مصلحي بحت، من شأنها زعزعة أركان النظام المدنية المتبقية، حيث بدأت عملية احتجاج أهل التجارة والصناعة والسياحة على تدابير السلطة، علاوة على استشعار فئات مدينية غازلها النظام وشاركها المنافع والريوع، باقتراب العد العكسي لخاصته، واحتمال إلحاقه الضرر في مداره من الآن وصاعداً. بهذا انتقلت المعادلة من الميدان الأمني والسياسي بعامة، إلى متن عالم العمل والأعمال، تضيف للبطانة هماً على مستعص، وتلوح بإنتاج أزمة اجتماعية حادة، فيما أوقعت السلطة اقتصاد البلد كسيحاً يتكئ على عكّازي الاستيراد المُقنَّن ودورة المبادلات المحلية الممدودة وكلاهما حافظ قسري للشحيح من مدخرات.
إن مرد القول بالمعايير المملوكية لنابع من السلوك الرسمي السلطوي الذي بلغ درجة الاستغناء عن طلب المشروعية من القاعدة المجتمعية وبات يقارب الشؤون الاجتماعية كشجون منذ انفضح الغلاف التنموي المخادع، وبانت طبيعة الامتيازات العائدة حصرياً لحلقة ضيقة تنتمي إلى بيت الحاكم، ولي الأمر. على هذا المعنى، نشأت حاضنة شبيهة بالأسرة العصابية مانحة النفوذ والجاه التي لا تحدها رابطة عائلية أو رحميّة بالضرورة، حيث تستوعب المستجير بها والمنتسب إلى أرومتها شريطة الولاء التام واحتجاب الشخصية الخاصة وراء العهدة الوظيفية ومقتضيات الأداء المنمَّـط. هكذا، تحول الممثل الشعبي والقطاعي، كما الإداري والمسؤول في الأسلاك المدنية والعسكرية، إلى شريك في مهمات النظام، واختلطت الأدوار في ما بينهم، وجميعهم أوفياء للأطر، قابلون بالإمرة، عاملون بالإنابة لا تقاة. لقد تبخرت وعود الدولة الإقليمية القادرة واضمحل الرقم الصعب في المجال القومي، إيذاناً بطي صفحة من تاريخ سورية، أبعدتها منذ الانقلاب الأول عن الركب الدستوري البرلماني، وولَّفت مع الرئيس الأب صيغة فردية وراثية اختزلت المؤسسات وإرادة الشعب، فناء الوريث تحت ثقل تبعاتها واختار القوة العارية مجدداً بديلاً للحكمة والحوار.
* كاتب لبناني
الحياة