سورية بين ضجيج المثقف وصمته/ سوسن جميل حسن
لم يطل الوقت على صرخة المتظاهرين: واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد. حتى اخترقها الرصاص وشظاها إلى شعارات غاضبة عصبوية مذهبية وطائفية. وتحول الحراك الشعبي الطامح إلى ثورة يقلب فيها الواقع بكل أركانه إلى حرب دمرت الوطن وانتهكت حتى إنسانية الإنسان. صحيح أن وقف القتل وإخراس آلة الحرب هو مطلب إسعافي، لكن الهزات الارتدادية ستشكل خطرًا كبيرًا بعد أن يصمت السلاح، هذه الهزات يلزم للوقاية منها نشر الوعي بعبثية الحرب ومحنة الأخلاق التي خلفتها الحرب وصارت معضلة حقيقية في سورية، فمنظومة القيم انهارت وباتت الظروف اللا إنسانية المتغولة في معيشة الفرد السوري، من فقر وجوع وتهجير وفقدان مأوى واعتقال وتعذيب ومعطوبين جسديا ونفسيًا، تفرز قيمًا جديدة تقوم على الذرائعية البغيضة. وهنا يعود سؤال التسامح ليفرض نفسه في حمى التخوين والثأرية والانتقام والإقصاء.
يمكن القول في التسامح بأنه تيمة أخلاقية بالدرجة الأولى، وهي مفهوم يحمل معنى تشكل وفق مسارات زمنية طويلة، حكمته ظروف تطور المجتمعات البشرية وتعدد هوياتها الثقافية وتطور الأديان والمعتقدات، وانقسامها إلى طوائف ومذاهب، وتبوئها سلطة فاعلة مؤثرة تفوق معظم أشكال السلطات، إذ لا يخلو معجم لغوي أو حوض موروث ثقافي لدى كل الشعوب من هذه المفردة، مثلما أضاء عليها الروائي والناقد نبيل سليمان في مقالة “لسان التسامح… فصيح”، مستعرضًا التسامح في الموروث الشعبي العربي، وتأثيله عربيًا، ثم التسامح في المعجم الغربي، متوقفًا عند تقديم الناقد سعيد بنكراد لكتاب “قول في التسامح لفولتير” بترجمته. مع الإشارة إلى ما كتب الكاتب السوري جمال شحيّد حول هذا المفهوم تحت عنوان لافت: “سورية الراعفة وثقافة التسامح”. مستشهدًا بتجارب تاريخية عظيمة كان لها أن تجعل بعض الأمم أو الشعوب تنهض من واقع منهار دمرته الحروب والثأرية وترمم نفسها ثم تندفع في ركب الحضارة، ومنها أمم أصبحت من الدول المتفوقة في عصرنا الراهن.
في التأسيس الفلسفي للتسامح يرى بنكراد في مقدمة الكتاب أن الحاجة إلى الآداب والأخلاق والمشاعر الخاصة هي الحاجة إلى ضوابط تحد من فوضى الانفعالات والأهواء. لكن إذا كان التسامح يكتسب صفة النبل في سلم القيم الأخلاقية، فهل تكفي الحاجة إليه من هذا المنظور كي تكون له سلطته المؤثرة، إذ لو كانت للأخلاق سلطة القوانين فهل كانت البشرية ستحتاج إلى القوانين؟
بالرغم من أن التاريخ يسجل مواقف عديدة لشخصيات فاعلة أو زعماء أو قادة، تبنوا التسامح أسلوبًا لخطابهم وسياستهم أو برامجهم وطلبوا المغفرة والصفح من أطراف تعرضت للظلم والجور، لكن هؤلاء الزعماء إن كانوا رجال دين أو سياسيين أو مناضلين اعتمدوا تجارب نضالية طويلة النفس تيمتها الأساسية النضال السلمي أو السلبي كما نيلسون مانديلا أو غاندي، فإن وراء نجاحها تاريخًا من العمل على بلورة وعي بقيمة هذا النوع من النضال أو هذا النوع من النشاط البشري الطامح بمستقبل يليق بالإنسانية، وبالتالي خلق رأي عام له ثقل ضاغط يمكن أن يدفع بالواقع باتجاه طوق النجاة.
الوعي العام كي يصبح قادرًا على صنع رأي عام يلزمه مشروع ثقافي يجتمع عليه معظم المثقفين أو العاملين في الشأن الثقافي، وسورية هي أحوج ما تكون إلى تكثيف الجهود على الوعي العام لشعبها بعدما عملت سنوات الاستبداد على شلّه وسنوات الحرب الدامية على تقسيمه كخطوة أولى أو حجر أساس لتقسيم وفق خارطة جيوسياسية تشتغل القوى العظمى الطامعة في بلادنا وأدواتها الإقليمية على تحقيقها.
لا يمكن تجاهل واقع سورية المقسم، الذي أنتج في كل منطقة سلطة ثقافية يسميها “فوكو” بـ”السلطة الحيوية”، التي تمتلك سطوة مستبدة باعتبارها حصيلة عمل الآليات والمؤسسات الثقافية والإعلامية والجامعات والمدارس والجوامع والمختبرات والمشافي ومختلف العلوم الطبيعية والاجتماعية التي تكوِّن من خلالها الفئات المهيمِنة الرأي العام، وتصنع بواسطتها الحقيقة للمجتمع، وتكمن خطورتها بنموها وتغلغلها المخاتل وامتلاكها المجال العام، مثلما كان الوضع عليه في سورية تحت ظل حكم نظام شمولي يؤسس كوادره ومنظوماته الفكرية بما يخدم أجنداته وبقائه في السلطة، منذ مراحل التعليم الأولى، ومثلما تصنع هذه “السلطة الحيوية” في المناطق السورية التي صارت تحت حكم فصائل أخرى إسلامية متشددة، أو قومية، خلال سنوات الحرب الحالية.
في ألمانيا هناك تذكير دائم بالتجارب القاسية، بالمرحلة النازية التي دمرت البلاد، ترى الشواهد موزعة في محطات الميترو وعلى الأرصفة وعند أطلال جدار برلين، وفي كل مكان، بهدف تلخصه جملة دالة بشكل كثيف: “كي لا ننسى”. لم يصل الشعب الألماني إلى تبني هذه الحكمة إلا بعد أن وعى تجاربه وأدرك عثراتها وعرف كيف التعامل مع الماضي والحاضر. فأسّس لمستقبل يقوم على التعاطي مع تجارب الماضي بطريقة علمية تضمن لعجلة الحضارة السير إلى الأمام، لم ينكر الشعب الألماني ماضيه، لكنه عرف كيف يستنبط منه الحكم ويؤسس لنظام جديد يضمن دولة القانون التي رسخت العدالة والمواطنة النزيهة من أي انتماء سوى إلى الوطن، وبالتالي كان للشعور بالعدالة دور كبير في انتعاش منظومة الأخلاق.
ميثاق التراحم الذي كتبته مجموعة من المفكرين والإنسانيين ورجال دين من مختلف الأديان عام 2009 وهو مؤلف من 300 كلمة تقريباً. وكانت قد دعت الباحثة كارن أرمسترونغ إلى تشكيل مؤسسة دعتها “ميثاق التراحم” تدعو فيها إلى الالتزام بالتراحم في العلاقات الإنسانية. لاقت هذه الدعوة قبولاً ودعاية من قبل كثير من نخب الشعب السوري في مجالات علمية واجتماعية واقتصادية وغيرها، لكن التراحم يندرج تحت مفهوم الأخلاق والمثل، هذا المفهوم الذي أول ما ينتهك في ظروف الحروب الوحشية كالتي تدور في بلادنا، تحت رحمة القتل والتشريد والجوع والتهجير مع التجييش واستثارة الغرائز وإضرام الفتن والثأرية في صدور أبناء البلد الواحد، أرى أن المهم كمقدمة لنشر ثقافة التراحم، التي يتوّجها التسامح أو المغفرة والصفح، التركيز على مفهوم العدالة الانتقالية والعمل على نشره بين الناس وجعلهم يعرفون ماذا تعني هذه العدالة، وما أهميتها في المرحلة التي تنتقل فيها الشعوب من أتون الحرب والنزاعات إلى ضفة أخرى، فطالما الجروح مفتوحة بهذا العمق وعلى كل أشكال السموم، فإن الوجع كبير وصراخ الدم يعتم العقل والبصيرة ويضغط الصدور. لابد من نشر الوعي بالعدالة الانتقالية التي تظهر المرتكب وتدعوه إلى الاعتراف بارتكابه مهما كان موقعه أو انتماؤه، وتحت أي ذريعة تستر، ثم يبقى أمر تطبيق العقوبات أو العفو بيد الجهة المغدورة أو المظلومة أو المعتدى عليها، هنا تبدأ الخطوة الثانية، خطوة التراحم والصفح والتسامح، التي ترتقي بالنفس البشرية وتنقي الروح، عندها يمكن أن نطمح بدور لنا في الحضارة الإنسانية.
إنما لتحقيق هذه الغاية لا بد للمثقفين من التراحم فيما بينهم، ولن يكون التراحم قبل الانعتاق من السياسة والانفلات من الاستقطابات أيا كانت. أن يكف بعض المثقفين عن كيل الاتهامات بحق بعضهم الآخر. فمثلما جرى باكرًا سؤال المثقفين عن موقفهم تجاه الحراك الشعبي، وربما كان المثقف هو الدريئة التي تتلقى الكم الأكبر من السهام في اللحظات التاريخية من هذا النوع، نظراً لما يفترض أن يكون الدور الاجتماعي والتغييري الذي تقوم به الثقافة عند كل الشعوب. وقع باكرًا أيضًا الخلاف والتخوين فيما بينهم. اختلف المثقفون على التسميات غافلين عن أمر مهم عبر عنه ألبرتو مانويل قائلاً: “الأسماء تحاول بها اللغة أن تكسو عري التجارب”. اختلفوا على تسمية انتفاضة الشعب، على العَلم، على مفهوم الوطن والوطنية، اختلفوا على مسميات عديدة، حتى على خياراتهم في البقاء ضمن البلاد أو مغادرتها، ووقع الانقسام. بين موالٍ ومعارض تميزوا وتمايزوا، ولم يلتفتوا إلى خطورة هذا الترميز والتوصيف والمسميات التي ابتدعها الإعلام الموجَّه، وإلى مكره ودهائه في دفعهم إلى منزلقات السياسة التي يفترض بالمثقف ألاّ يرضى بالارتباط بها.
من هم في الداخل عابوا على من هم في الخارج مغادرتهم البلاد وقت المحنة، علمًا بأن كبار أدباء ومثقفي ألمانيا غادروها في زمن الحرب. ومن هم في الخارج اتهموا من في الداخل مرة بالخنوع ومرة بتأييد نظام يقتل الشعب، ومن بقي صامتًا اتهموه بصمته من دون أن يقيموا اعتبارًا لهذا “الصمت المقدس” كما وصفه الكاتب السوري فواز حداد في حوار معه، من بقي في الداخل السوري واقع تحت أشرس أنواع الاستبداد، في أي منطقة كان، فليس استبداد النظام وحيدًا، هناك استبدادات عديدة تتبارى في العنف والتنكيل بالشعب.
الحرب الجبارة في سورية، والقتال بين أطياف الشعب، وتأجيج الفتن الداخلية وتكريس الكره والضغينة بين مكونات الشعب لتزداد الحرب ضراوة ويتداعى ما بقي من الكيان السوري لن تودي إلا إلى نهاية كارثية، ولن يكون هناك رابح كما لن يكون هناك وطن، إنما لن يكون للتسامح والتراحم مكان فاعل إذا لم يصبحا مفهومين حاضرين في وعي المجتمع، مسؤولية التأسيس لهما تُناط بالمثقفين المطلوب منهم البحث عن المشتركات والعمل عليها، فالمبدأ الهادم لأي إمكانية عيش سليم مستقبلاً والقائل: إمّا نحن أو هم، يجب العمل على تفكيكه في أذهان الناس، فإن بقي هذا المبدأ متغلغلاً في النفوس لا يمكن، معه، التأسيس لحالة ديموقراطية تقوم على التعددية، لقد تكرّس هذا المبدأ خلال السنوات الماضية، بل ترسخ بدموية رهيبة، يمكن التأسيس لوعي ضمن هذا المنظور، الوعي بحق الاختلاف وضرورة التعايش بضمانة القانون، ودعم هذا الوعي بخلق رأي عام يقبل فكرة التسامح ويؤمن بها.
تحتاج سورية إلى تحرر مثقفيها من كل الأشكال النمطية والمسميات التي صنفت المثقف فيما مضى. بل يحتاج الشعب السوري إلى مثقف جديد.
*كاتبة من سورية
ضفة ثالثة