سورية: بين عبثية النظام وإرادة شعب
شفيق ناظم الغبرا *
ورث بشار الأسد عن أبيه عام ٢٠٠٠ دولة وأجهزة وشعباً، لكنه لم يعرف ماذا سيفعل بما ورثه نظراً لاستحالة نجاح أسلوب التوريث بهضم بلد بعمق وحضارة وتنوع سورية. وعلى الأغلب تم إقناع بشار الأسد من قبل المسؤولين الأمنيين بأن المسؤولية في الدولة لا تتطلب الكثير، وأن كل شيء يمكن تقسيمه وتنظيمه بواسطة الأجهزة الأمنية التي أنشأها الرئيس السابق حافظ الأسد. بدأ الرئيس الجديد مهامه وأكتشف طريقاً إضافياً لربط الناس من خلال المصالح المالية، لكن ذلك الأسلوب غير الشفاف والذي لم يكن أميناً لمبادئ العدالة الاجتماعية أدى إلى الكثير من الفساد العائلي والأمني، ودفع بفئات كبيرة من المجتمع للشعور بالتهميش وأخرى بالغبن. وبعد أكثر من عقد على حكم بشار الأسد انفجرت كل مكونات التركيبة السورية. من خلال الثورة السورية بدأت سورية بالاستقلال عن عائلة الأسد وعن نظام سياسي تم رسمه بدقة وعناية منذ جاء حافظ الأسد إلى الحكم عام ١٩٧٠.
إن الأنظمة التي تبني بقاؤها على قوة الأمن والأجهزة والبوليس والاستخبارات تتفاجأ بالأحداث وذلك لأنها تمتلك معلومات مشوهة عن المجتمع الذي تدعي تمثيله، وهذا يقودها إلى فهم مفكك للمحيط، إذ تراه مشكلاً من سلسلة من المؤامرات. وقد يكون الرئيس بشار (وقبله صدام والقذافي) هو الآخر ضحية رؤية تآمرية يحملها، وذلك بحكم التربية، للتاريخ وللسياسة. فمن يحكم سورية في ظل نظامها الأمني والديكتاتوري لا بد من أن يشك في الأنصار كما والأعداء.
إن استمرار الأسد باتباع سياسة الأرض المحروقة في التعامل مع الثورة السورية التي تطالب بالتغير مع طول جمود وتسلط ستجعله يتخندق في ذات الموقع الذي وصل إليه من قبله كل من الرئيس السابق صدام حسين والرئيس السابق معمر القذافي أو الرئيس البوسني ميلوسوفيتش الذي خضع لمحاكمات دولية. إن الطريق المدمر الذي يتطور أمامنا لن يكون بلا حساب دولي وإقليمي. فقد مضى الزمن الذي يمعن فيه حاكم من أجل سلطة زائلة أو سيطرة مزيفة بقتل شعبه. قد تكون هذه المعركة في سورية أخطر معارك العرب مع الطغيان في وسطهم.
المواجهة القائمة بين النظام والشعب غطت كل الجغرافيا السورية، ففي سورية جيش نظامي وآخر حر انشق عنه بسبب انحراف الجيش النظامي عن مهامه، وهناك حصار للمدن وبخاصة لمدينة حلب ومعارك في دمشق العاصمة يقوم بها النظام، وأصبح النظام السوري الرسمي يسيطر على نسبة صغيرة من رقعة الأرض السورية وإن كان لا يزال يمتلك جيشاً قادراً على توزيع الموت على مجمل المدن السورية. وفي الوقت ذاته هناك ملايين اللاجئين السوريين في مناطق سورية مختلفة وفي دول الجوار، كما أن معظم التجار وأصحاب الأعمال خرجوا من البلاد. فحتى اللحظة لا يزال الشعب السوري يتظاهر، ولا يزال الشعب السوري ينزل للشوارع وذلك على رغم عسكرة قطاعات كبيرة من الثورة.
في الظروف الراهنة العنف الذي يمارسه النظام مفرغ من كل رؤية سياسية. فاستمرار العنف سيؤدي إلى نتيجة واحدة: انضمام المزيد من الناس إلى الثورة. إن الأسلوب العدمي للنظام السوري يعبر عن جانب عصبي يتحكم في تفكير القيادة السورية. وهو تصرف مغاير لأسلوب النظام المصري والتونسي وحتى اليمني في أصعب مراحل الثورات العربية.
ولو عدنا قليلاً للوراء سنسمع القصة التالية. ففي بداية الربيع العربي كانت أكثرية السوريين تقول: سورية مختلفة عن بقية دول الربيع لأنها تقاد من قبل شاب حقق بعض التقدم الاقتصادي. لكن بعد أحداث درعا والرد الدموي المرعب للنظام ثم طريقة إدارة الرئيس للأزمة وتصريحاته وخطاباته ومواقفه بدأ دعم الأسد وسط الغالبية السورية يضمحل. بل حتى المتعاطف مع النظام في صفوف السوريين أخذ بالتساؤل: إلى أين تسير سورية في ظل هذا النوع من القيادة؟ ما وقع في سورية نموذج واضح لرئيس فقد التأييد الذي توافر له بين السوريين في الأيام الأولى من الأزمة.
إن النظام السوري في وضع كهذا لا يمكن أن ينتصر، فإن انتصر سيقف على هيكل مدمر لا يمكن بناؤه بينما لن يتعاون معه أحد في المعمورة لإعادة بناء ما دمر، وإن هزم تكون تلك بداية لانبعاث إرادة الشعب. وربما تبقى حتى اللحظة بعض الحظوظ للحل السياسي الذي يؤدي لإيقاف الحل الأمني ولاستقالة الرئيس وكل مسؤول عن جرائم القتل بينما يبدأ طريق واضح باتجاه الإصلاح السياسي المتفق عليه.
لهذا السبب ما زالت الدول والأطراف تحاول طرح مبادرات سياسية بهدف تخفيف اندفاعة العنف الدموي للنظام السوري، فعنف النظام السوري ساهم في عسكرة المعارضة السورية وعمق الجروح بين السوريين. لكن استمراره يهدد سورية الكيان ويهدد موقع سورية في التوازنات الإقليمية كما يهدد كل من إيران وروسيا بفشل شامل. إن المبادرات الأخيرة من الرئيس محمد مرسي في مصر والموجهة لإيران ولروسيا قد تكون قد وقعت في وقت تفكر فيه القيادة الإيرانية والروسية بأنه يجب التحضير لمرحلة ما بعد الأسد وأن مرحلة الانتقال يجب أن تتضمن تفاهماً دولياً يسمح بإعادة بناء سورية.
لكن هناك أبعاداً أخرى للمبادرات الجديدة بما فيها مهمة المبعوث العربي الدولي الأخضر الإبراهيمي الشاقة والصعبة: محاولة تفادي الحل العسكري الدولي. فكل حرب تدوم وتتطور في ظل مقتل الكثير من الناس والمدنيين الأبرياء وفي ظل تجاوزات وجرائم حرب ستقود إلى التدخل العسكري في نهاية المطاف. إن الدعوة للتدخل الدولي ستكبر كما حصل في حروب البوسنة وكوسوفو وكمبوديا وغيرها. إن المبادرات لإيقاف الحل الأمني ولفرض الاستقالة على الرئيس الأسد هي المدخل الأول لإيقاف إمكانية التدخل الدولي بعد الانتخابات الأميركية.
لقد دمر النظام السوري سورية وقراها ومدنها، لكنه فشل في تدمير روحها الثائرة، وهذه ليست أول مرة يدمر النظام مدن سورية، لكن الجديد هذه المرة أن الشعب السوري أكثر قوة وقدرة على المواجهة، فقد تحرر من عقدة الخوف، وتحرر من الأوهام حول نظامه، وهو يتواصل مع الروح التي أيقظت فيه في السابق القدرة على المقاومة لنيل الاستقلال في زمن الاستعمار، هذه الطاقة المتجددة ستكون كفيلة باستكمال برنامج الثورة ثم بإعادة بناء سورية بعد انتهاء الكابوس الذي يتهددها.
الحياة