صفحات سورية

سورية: ثورة الفقراء وخيانة المثقفين


صادق أبو حامد

امتداد زمن الصراع الذي تخوضه الثورة السورية ما ينفك يثير أسئلة كثيرة عن أسباب احتفاظ النظام السوري بالقوة، وقدرته على كسر وحدة الشعب السوري في الاصطفاف خلف ثورته. أسئلة لا تبدو مكتفية بالتفسيرات المتوفرة التي تشرح امتداد جذور النظام لأربعة عقود، صُرفت خلالها طاقات البلد على تعزيز وتثبيت القوة الحامية للاستبداد، والتنوع الطائفي والقومي للمجتمع السوري والذي تلاعب النظام بحساسياته واستغله أبشع استغلال، إضافة إلى شبكة المصالح والفساد التي بناها النظام مورطاً كبار التجار وخاصة في مدينتي دمشق وحلب. جميع هذه العوامل تساهم بهذا القدر أو ذاك في تأخير سقوطه لكنها لا تفسر المعضلة تماماً.

هذه الملاحظة تدعونا للظن بوجود خلل جوهري يقف وراء إشكالية بطء أو عدم قدرة الثورة حتى الآن على جذب قطاعات مهمة من الشعب السوري بعد كل القتل والاعتقال والتنكيل. خلل يعود إلى الأشهر الأولى وتتحمل مسؤوليته في الأساس الشريحة المثقفة.

لا يعنينا كثيراً هنا الحديث عن تعثّر أدونيس أو سقوط نزيه أبو عفش، وليس موضوع التحليل تخاذل فنان ما أو تحول كاتب كان يحسب على المعارضة إلى بوق للنظام. الشريحة المثقفة التي نقصدها هي جميع أولئك الذين كانوا يواكبون الشأن الثقافي على تنوعه، سواء أكانوا من المنتجين فيه أم المتابعين له. تلك الآلاف التي كانت تشكل أوساطاً في المدن، الكبرى منها بشكل خاص، وتتميز بحياة غير محافظة، وعلاقات عصرية متحررة، وتتوافق ضمنياً على جملة من قيم الحداثة؛ تلك الآلاف القادمة من جميع قرى ومدن سورية لتجتمع في المدن الكبرى وتبني عالمها الخاص وتعيش ميولها الخاصة.. في مهرجان هنا.. وأمسية هناك .. في المقاهي والبارات وفي النشاطات الثقافية والاجتماعية الخاصة بهم. هذه الشريحة التي رأينا شبيهتها المصرية تهتف وتبدع وتستشهد في ميدان التحرير، ورأيناها تتظاهر ثم تعتصم لمرات في المدن التونسية، بينما كانت وما زالت أساس الثورة وقلبها في اليمن رغم كل التضحيات. فأين تبعثرت هذه الشريحة في سورية؟ وما الذي ترتب عن غيابها؟

ثورة الهوامش

منذ هلت البشائر من حوران في الجنوب حاملة إرادة الثورة وإصرارها، من درعا التي صنعت الثورة بكسرها حاجز الخوف وانتقالها من الهتاف الإصلاحي إلى مواجهة مفتوحة مع شرعية النظام، ثم حين انتقلت بعد وقت قليل لتنتشر في الضواحي والمدن الصغيرة والقرى، وصفت الثورة السورية بثورة الهوامش، ثورة المناطق المهملة، وهي الصفة التي لا تزال صالحة حتى الساعة.

وإذا كان هناك ما يفسر بالمقياس الاقتصادي حماس وغضب الشرائح الأكثر فقراً في الهوامش، فإن غياب الطبقة الوسطى ومركزها الأساسي في المدن الكبرى، لا يبدو منسجماً مع صورة هذه الطبقة بوصفها حاملة أساسية للتغيير الديمقراطي.

صحيح أن التاريخ المعلن والمعتمد لانطلاق الثورة، وهو الخامس عشر من آذار، يرتبط بمظاهرة جمعت عشرات الأشخاص في سوق الحميدية في دمشق القديمة، ثم تلتها محاولات قليلة قمعت جميعها من قبل النظام. إلا أن هذه المحاولات التي بادر بها أفراد من الوسط الثقافي سرعان ما انطفأت، وحينما عادت بعد زمن لتواكب ولو بخجل الثورة العارمة المتفجرة في المدن والقرى ‘الأقل شأناً’، لم تستطع تجاوز محدوديتها وظل رقم العشرات يحاصر أفقها. بينما ظلت مدينتا دمشق وحلب متوجستين، ورغم تزايد المظاهرات فيهما، ومظاهر الاحتجاج، إلا أنه يبقى من الصعب القول حتى الآن إنهما مندمجتان في الثورة.

ضعف وقلة هذه المحاولات كانت تعبر عن هزيمة مريعة للريادة الثقافية، وكان ذلك التقاعس والتهرب من قبل غالبية المثقفين يمثل الخيانة الأولى. فالوسط الثقافي لم يكن قادراً على امتلاك زمام المبادرة، أو كسر حاجز الخوف جماعياً، وبدلاً من أن يكون الحامل الأساس لثورة تطالب بتغيير هو في صلب نقاشاته السطحية منها والعميقة، ومن مطالبه المبدئية البديهية، تراجع عن دوره التاريخي. تراجع أفقد الثورة الكثير من آمالها في تحريك المدن الكبرى بما تحمله من حشود وتنوع، وبما تمثله من مركزية في بنية النظام الاقتصادية والإدارية. بل إن تخاذل المثقفين كان يعني خسارة الشبكة الحيوية الأهم في هذه المدن التي تستطيع جمع أطراف التنوع المدني في الوقت الذي تعجز الشبكات العائلية والقبلية والدينية والمناطقية عن ذلك. خسارة طبعت الثورة بالطابع المناطقي ليشكل كل حي أو قرية وحدة في فسيفساء الثورة. ولعل الموقف المخيب للمثقفين يُظهر نجاح النظام في تفريغ البلد من الحوار السياسي، وتفريغ الوسط الثقافي من الالتزام السياسي، خاصة بعد ربيع دمشق الذي سرعان ما سحقت وروده مما خلّف ميلاً ذاتياً نرجسياً لدى المثقف هو مــزيج من العدمية واللامبالاة.

إن الآلاف القليلة التي تشكل الوسط الثقافي في مدينة دمشق مثلاً كانت كفيلة بقلب مشهد الثورة السورية لو أنها استطاعت بدايةً أو في الأشهر الأولى اختراق حاجز الخوف، والصمود كما فعل أبناء المناطق الثائرة بما فيها تلك القريبة في ضواحي دمشق. بيد أن أكثرهم خان المبادئ في مشهد يصعب تصوره في بلد يشهد ثورة ضد الاستبداد، وضمن فضاء من التغييرات الشاملة التي يعيشها العالم العربي. خيانة تراوحت أسبابها بين المصالح الشخصية على تنوع هذه المصالح أو نرجسية مفرطة تخشى أن تؤثر الضجة التي تصنعها جموع البسطاء على هدوء الفضاء الذاتي وحريته ، أو لأن بعضهم اعتبر أن شخصه يمثل ذخراً للوطن لا يجب التفريط به في هذه المعمعة. بينما وجد البعض نفسه يتكور في حدود انتمائه الطائفي بعد أن كانت تلك الحدود شبه محرمة في عرف الجماعة المثقفة.

الأقليات: المثقف إذ يخون طائفته حين ينتمي إليها

التكوين الفسيفسائي للثورة السورية لم يقتصر على الفرز المناطقي بل تعداه، كما يتوقع في مجتمع تعددي، إلى الفرز الطائفي. لا جدال في أن هناك الكثير من المناضلين والمعارضين يحسبون على الأقليات الدينية، وهم بالتأكيد الأكثر تعرضاً للضغوط الأمنية والاجتماعية. لكن الحشود الثائرة تحمل سمات أحادية طائفية واضحة. مشهد يثير الخوف لدى الأقليات ويثير الألم والحنق لدى الثوار. هذا المشهد المريع هو بلا شك صنيعة النظام، ولكن ماذا فعل المثقفون حياله؟ أين ذهب القسم الأكبر من مثقفي الأقليات، أولئك الذين يمثلون أغلبية في الأوساط الثقافية عموماً بحكم هجرة الريف إلى المدينة التي تعيش الآن جيلها الثالث، والاهتمام بالتعليم كطريق ممكن للصعود الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما ساهم في رفد الأوساط الثقافية المدنية التقليدية بأجيال من المبدعين في شتى المجالات، وهي حالة عاشتها سورية كسواها من دول العالم. لكن حين دقت ساعة التغيير وتراجع أغلب المثقفين على اختلاف مشاربهم، كان لتراجع المثقف ‘الأقلوي’ أثر أشد وطأة، فعودته إلى مواقعه الأهلية، سواء أكان السبب ارتداده إلى مرجعيته الطائفية، أو خوفه من مواجهة سطوة العائلة والمحيط الاجتماعي من جهة والسلطة المتربصة بهكذا اختراقات من جهة أخرى، كانت تعني ـ هذه العودة ـ انفصاله كلياً عن مرجعيته الفكرية، ليتحول هذا الذي أنهك عمره في تثبيت تمايزه عن محيطه ‘الفطري’ إلى فرد من جماعة ‘إن غوت غويت’. ولعله لم يدرك أنه حين جعل من انتمائه الطائفي حاجزاً بينه وبين دوره التاريخي إنما كان يخون مبادئه وشعبه وطائفته. فالأقليات الدينية لا تلام على حذرها وتخوفها من الهزات الاجتماعية في مرحلة تعج بالصراعات الدينية والطائفية على المستوى العالمي عموماً وفي الأقليم خصوصاً، لكن الشريحة المثقفة تلام، وتتحمل المسؤولية، على تقصيرها في تقديم نموذج مغاير يتجاوز منطق الأقليات.

تقاعس المثقف الأقلوي كان يعني تعزيز اللون الأحادي لحشود الثورة، ومساعدة النظام في وضع حدود الخوف بين الطوائف، ولعل الجملة التي أطلقتها باكراً المناضلة العنيدة خولة دنيا كانت تستشرف هذه المعادلة حين هتفت: ‘شاركوا في الثورة كي تشبهكم’. ولو أن بضعة آلاف خرجوا من مثقفي الطائفة العلوية للاحتجاج، لو أن آلافاً خرجوا في المناطق ذات الأغلبية الدرزية أو المسيحية من مثقفي هذه الطوائف كما حدث لمرات في مدينة السَلَميّة، لو أخذ المثقفون على قلّتهم دورهم التاريخي منذ الأشهر الأولى لكانت جغرافيا الثورة تشمل كل متر في سورية، ولكانت الثورة نفسها أكثر قوة وجمالاً وتوازناً. إلا أن ما حدث هو أن عشرات من هؤلاء المثقفين حاولوا كسر صمت مناطقهم متحملين قمعاً شرساً من الأمن والشبيحة، بينما انكفأ غالبيتهم على ذواتهم الفطرية، وراحوا يكتشفون يوماً بعد يوم أن الثورة لا تشبههم، وأن اختلافهم عنها في ازدياد مستمر. دون أن يعرفوا، أو يعترفوا، أن موقفهم هو من صنع هذا الاختلاف وبدّد الانتماءات العقلانية بشكليها الاجتماعي والثقافي، في الوقت الذي كانت الانتماءات السياسية الفوق طائفية قد قزمها بطش النظام منذ زمن بعيد..

المثقف الثائر.. إن الكرام قليلُ

المتابع للمشهد السوري يلحظ دون عناء عفوية الثورة السورية، فهي تتقدم وفق تصاريف الأحوال، مدعومة بتراكم هائل للقهر وإرادة أكيدة بالتغيير لدى الثوار، إضافة إلى شجاعة في مواجهة النظام تتجاوز التحليل والتفسير. لكنها ـ أي الثورة ـ لا يديرها عقل أو استراتيجية أو منهج يمكن تعيينه، رغم كل الإبداع والتقدم الذي أحرزته مظاهرها في غير مكان.

هذه التوصيفات لا تنتقص من قيمة الثورة، لكنها تثبت من جديد الأثر المريع الذي خلفته خيانة الوسط الثقافي. فمئات المثقفين الذين التزموا بمبادئهم ونصرة شعبهم كانوا قلة وموزعين جغرافياً إلى حدٍّ جعل من المستحيل عليهم تشكيل تيار فاعل ومتمايز في الشارع. واقع فرض عليهم أن يتوزعوا أفراداً وجماعات في عدة مسارات تتراوح بين النشاط الجمعياتي عملاً وتنظيماً وإعلاماً وبين الالتحاق بالكيانات السياسية للمعارضة.

ورغم أن المعارضة التقليدية ظلت لعقود منفصلة عن الشارع بحكم قمع النظام أساساً، إلا أنها سرعان ما حاولت ركوب موجة الثورة، وهو ما نجحت فيه إلى حد بعيد، فهي تشكل الآن الجسم الرئيس لكل من قطبي المعارضة: المجلس الوطني السوري وهيئة التنسيق الوطنية. بينما أدى ضعف حضور الوسط الثقافي في الفعل السياسي في لحظة الثورة إلى اقتصار دور المثقفين على ممارسات ومشاركات فردية، على أهميتها وبطولتها، غير قادرة على تشكيل تيار مؤثر في الحراك ذاته أو في أطر المعارضة نفسها.

ولعل تجربة برهان غليون في رئاسة المجلس الوطني تشكل مثالاً لموقع المثقفين في الكواليس السياسية للمعارضة. فالحضور الهزيل لمن يحسب على الإطار الثقافي في تلاوين المعارضة سحب من المثقف أي قدرة على التأثير حتى ولو بلغ مراتب قيادية. إذ إن وحدته في فضاء لا يشبهه كثيراً، وتغلب عليه التكتيكات، إن لم نقل التلاعبات، السياسية، وعدم وجود تيار واضح يدعمه، أو يمكن أن يلتقي معه على العمق ذاته، تجعله مضطراً لتكرار ما يقال حوله بالبساطة الممكنة كي لا تسحب جموع الثوار الثقة منه!

بالمقابل حافظ بعض المثقفين على مقدار من الاستقلالية، في محاولة منهم لخدمة الثورة كل حسب موقعه وإمكانياته، بما في ذلك تغطية النقص المنهجي والنظري الذي تعاني منه الثورة، كما هو حال الجهود التي يبذلها، على سبيل الذكر لا الحصر، ياسين الحاج صالح للتفاعل مع الثورة فكرياً.

ويبدو أن إدراك المثقفين الثوار لمحدودية وزنهم، وإحساسهم بعقدة الذنب تجاه تخاذل وخيانة الأكثرية من أبناء وسطهم، جعلتهم في كثير من الأحيان يتجنبون نقد أهل الثورة في الميادين، ويتعجلون الدفاع عن خطاباتهم وإيجاد مسوغات لها حتى عندما تصطدم بمبادئهم، أما حين ينتقدون فيحاولون الابتعاد عن مرجعية قيم الحداثة كي لا تبدو فجة في وجه شارع لا يحمل الكثير من الوعي النظري، لكنه يصنع الأمجاد في كل لحظة.

هذا المزيج من الحماس الثوري وعقدة الذنب تنتج في بعض الأحيان قراءة مثالية للثورة تخلط بين المطالبة بالتحرر من القهر والظلم والمطالبة بالحرية الفردية وحرية الاعتقاد، وبين الاحترام التقليدي للمرأة واحترام حريتها، وبين المدنية والعلمانية. قراءة تعاني من قوة الاستقطاب الموجودة بين اتجاهين متنافرين طرفاه الاستبداد والثورة، ما يجعلها تغرق أحياناً في حالات من التقديس والتبجيل لكل من يقاوم المستبد لترفعه عن مستوى النقد. بل إن ظاهرة صوتية كعدنان العرعور بما يمثله من غوغائية وتعصب وظلامية قد نجد من المثقفين من ينتقده للجانب الطائفي في خطابه، ويسكت عنه في خطابات أخرى. بالمقابل يصعب أن نجد من ينتقد عبد الباسط الساروت حين يعظّم ويمجد العرعور، وكأن شجاعة الساروت وبطولته الاستثنائية، تجعله خارج مستوى النقد، إن لم تنصّبه مرجعاً للثورة. ألم تنصح إحدى صفحات الفيسبوك الحاشدة برهان غليون أن يسمع ما يقوله الساروت وينفذه دون نقاش!!

قتامة صورة خيانة الوسط الثقافي لا تطمس بأي حال جهود مئات من المثقفين على اختلاف أماكن إقامتهم ومواقع مساهمتهم. جهود تحقق الكثير للثوار والثورة وإن لم تكن قادرة على التأثير في بنيتها. ولا أعتقد، في هذا السياق، أن الحراك الطلابي في الجامعات السورية يستطيع أن يستدرك الخلل، فمن جهة تأخر هذا الحراك ستة أشهر تقريباً بعد انطلاق الثورة، وهو ما يعني أن بدايته كانت لاحقة للشروخ الجغرافية والسياسية التي أحدثها النظام في المجتمع، كما أن انتشار الجامعات وتوزعها في أغلب المدن قلل من تنوع الجسم الطلابي في هذه الجامعة أو تلك، دون أن يقلل هذا القول من أهمية وحيوية هذا الحراك في إطار الثورة فهو يضمن، في حال تبلوره، حضوراً شبابياً متآلفاً ومتماسكاً سيكون له ولا شك دور مهم قبل وبعد سقوط النظام.

لا مفرّ من الاعتراف بأن المثقفين تأخروا عن التأثير جذرياً في لوحة الثورة، لكن المدينة الكبيرة التي ينتمون إليها بأغلبهم ما زالت تنتظر حشدهم، ومازالت سورية تنتظر بفارغ الصبر انتفاضة مدينتيها الكبيرتين. صحيح أن المثقفين أقل الناس حباً للحشود.. لكنها سبيلهم الوحيد كما يبدو للوصول إلى الحرية التي يعشقون.

‘ كاتب سوري يقيم في باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى