كتب ألكترونية

سورية ثورة من فوق/ رايموند هينبوش

 

 

«سورية ثورة من فوق» لرايموند هينبوش الحكم العسكري البعثي ـ العائلي خلال أربعة عقود!

تقديم واختيارات: يقظان التقي

«ثورة من فوق» عنوان دراسة لرايموند هينبوش أستاذ العلاقات الدولية في جامعة سانت أندروز ورئيس مركز «الدراسات السورية في اسكتلندا وهو مركز غير حكومي غير حزبي تأسس العام 2008 ويهدف بشكل رئيسي الى تشجيع وتعميق الدراسات والبحوث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية المتعلقة بسوريا خصوصاً وبمنطقة الشرق الأوسط عموماً ومن ضمن أفراد هيئة الاستشارية ستيفن هايدمان وفريدريك هوف وجيوشوا لانديز وديفيد ليش وباتريك سيل وفريد لاوسن ونجيب الغضبان ومازن هاشم ولؤي صافي ورضوان زيادة وآخرين.

تشرح الدراسة تطور الدولة السورية كما ظهرت تحت الحكم العسكري للبعث خلال خمسة وثلاثين عاماً وتحديداً تحت حكم الرئيس حافظ الأسد. وتحلل الطريقة التي من خلالها فتحت هشاشة دولة ما بعد الاستقلال، التي لم تكن قادرة على احتواء الكفاح القومي المتصاعد والصراع الطبقي، الطريق لصعود حزب البعث الى السلطة، وتتفحص كيف حوّلت «ثورة البعث من فوق» تضاريس سورية السياسية الاجتماعية. ثم شرحت الاستراتيجية المختلطة لتركيز السلطة تحت حكم الأسد، والطريقة التي جرت من خلالها ملكي رئاسي (Presidential Momarchy) مدعوم من أقرباء مؤتمنين وعملاء يقودون أجهزة القمع، وفي خلق منظمة سياسة شبه لينينية تضم جمهوراً من الناخبين الريفيين.

وبعد ذلك عرضت الدراسة العلاقات اللاحقة بين الدولة والمجتمع، بما فيها صعود الطبقة الجديدة والتمرد الإسلامي، وبقاء المجتمع المدني، ولجوء الأسد الى التخفيف من الضغط السياسي بديلاً للديموقراطية ومحاولة خلق اقتصاد أكثر تنوعاً وعدلاً من مثل الإصلاح الزراعي والتصنيع والتحرر الاقتصادي وبخطوات بطيئة. ثم يتناول الفصل الأخير كيف حوّلت سياسة الأسد الخارجية سوريا من ضحيّة الى لاعب في الصراع الاقليمي من أجل السيطرة.

خلق حافظ الأسد سلطة مركّبة جداً، دولة مستقرة محوّلاً سوريا من ضحية للقوى القوية الى لاعب اقليمي يُحسب حسابه، واستطاع مسرحة حضور قوي بالجمع بين المبادئ القومية والرؤية الاستراتيجية والسياسية الواقعية. ولكن بتكلفة اقتصادية كبيرة، بحكم مخابراتي أمني مركزي وبزرع خلايا مخابراتية في كل سفارات سوريا والعالم وبالتضحية بالحريات السياسية بالداخل.

شخصية الأسد أضعفت كل المؤسسات السياسية، والنتيجة فشل التحديث السياسي في سوريا وبدل التحول الى جمهورية راديكالية، تحولت السلطة مع آل الأسد الى سلالة حاكمة جديدة تحكم بنوعٍ من الاستقرار المستمر لمجتمع مغلق وممزق وسلام غير مشرّف ما دام الجولان بقي محتلاً وإن أوحى الأسد بكفاح ممانع راسخ لاحتواء الهيمنة الإسرائيلية في الشرق الأوسط.

مع تولي بشار الأسد السلطة بدت القيادة الجماعية، بافتراض افتقار بشار الأسد الى المكانة، أمراً محسوماً بالتأكيد، وكان عازفاً عن وضع نفسه أساساً في موضع خلافي مع أفكار أبيه أو زملائه الكبار في السن.

والآمال التي علّقت عليه، بعد أن بدا أنه يشجع مبدئياً «ربيع دمشق» خابت حين اتخذ نظامه إجراءات صارمة ضد المعارضة السياسية السريعة النمو وذلك خشية تزعزع الاستقرار، كما حدث مع غورباتشوف. ويمكن فهم مشروع بشار على أنه «عصرنة الاستبدادية»، أي تحسين عمل النظام بحيث يمكنه البقاء والاستمرار وتوليد التنمية الاقتصادية اللازمة لضمان قاعدة النظام الاقتصادية.

حتى في موضوع النموذج الاقتصادي بدا النظام متردداً في مسألة الى أي حد يمكن أن يمضي وبأي سرعة في التحول الى السوق والتحرر الاقتصادي وخصخصة القطاع العام.

أما المشكلة الرئيسية التي أربكت بشّار، فهي قضية اغتيال الرئيس الحريري والتي أجبرت سوريا على الخروج من لبنان. وقد تكون هي الضربة الكبرى للمصالح السورية حسب توقيت بشار، ومع أن الكثيرين يفترضون أن النظام مذنب وأن هناك أملاً من استخدام هذه القضية لتقويض النظام، يعتقد آخرون أن الأمر بقتل الحريري شيء بعيد عن شخصية بشار (Ieseh). إن الأمر ومسار التحقيق العلني قد قوّض صدقيته. ثم أتى التصرف غير الديبلوماسي بالنسبة الى رئيس دولة معروفة بتحالفاتها القوية مع السعودية ومصر حين أشار الى الحكام العرب على أنهم «أنصاف رجال». ومنذ ذلك الحين ساءت العلاقات بشكل تصارع الجانبان على مسألة من سيحكم لبنان.

طبيعة مركّبة لنظام أربكت المراقبين لجهة قوة هذا النظام الذي قام في الستينات بثورة شاملة من فوق حافظت على استقرار متميز نحو السبعينات على الرغم من التغييرات الكبيرة في بيئته المحلية والدولية. تزاوج أو تدشين حزب جيش أكثر من مجرد حكم عسكري، طائفة علوية أقلية تسيطر عليه، ومع ذلك لم يكن نظام أقلية، كان يحتوي على تحالف عابر للطوائف وتقع دكتاتورية الأسد الشخصية في قلب هذا النظام وبمؤسساته المعقدة وفي مزيج غريب شعبوي بين برجوازية الدولة والقاعدة الفردية وأفضل ما يطلق على هذا النوع من الأنظمة هو «الفاشية الشعبية».

صحيح وصل حزب البعث الى السلطة عبر انقلاب، لا عبر تعبئة جماهيرية، لكن عقداً سابقاً من التأزم الاجتماعي ونشاط الحزب المعادي للأقلية الحاكمة، كان إشارة الى الانقلاب كان نتيجة متأخرة لسنيّة سياسية أعاد النظام في ما بعد تفعيلها ودمجها من خلال الحزب والبنية التعاونية المرتبطة به. وهذه البنية التحتية السياسية هي أهم المعالم التي تميز الفاشستية الحديثة غير التقليدية وفقاً لبيرلموتر أي حكم حزب واحد مع مشاركة سياسية محدودة (هانتغتون).

الدراسة تبحث في تلك الأبعاد السياسية في سوريا الحديثة: عرض التغيير السياسي وحالة عدم الاستقرار في فترة ما بعد الاستقلال، وتعزيز السلطة في دولة البعث وعلاقات المجتمع الدولة، وتأثير سياسة البعث على التنمية الاجتماعية الاقتصادية وأداء السياسة الخارجية السورية. مع الإشارة الى إرث ما قبل الحداثة حيث كانت سوريا عبر معظم تاريخها ميداناً لتعاقب الامبراطوريات العسكرية. لذا فإنها لم تطور طبقة حاكمة مستقلة!، وأي مؤسسات تمثيلية لتجسيد مجتمع مدني مستقل في مجتمع «فسيفسائي» مؤلف من عدد كبير من الجماعات الصغيرة المنطوية على ذاتها والمتغايرة اثنياً ودينياً والبطريركية في بنيتها والمتوافقة مع الحكم المركزي الوقفي مع ضمانة الإسلام كإيديولوجية جامعة رئيسة للدولة مع ولاء الأغلبية المسلمة (80% في سوريا) فيما، كانت أديان الأقليات تتمتع باستقلالية بقيادة زعمائها الدينيين في ظل غياب مجموعات متضامنة مستقلة من طبقات أرستقراطية ومدن حرة وكنسية مستقلة. أي أنه لم يكن ثمة تقليد تعددي ليعبد الطريق أمام ديموقراطية لاحقة.

[ تركيز السلطة

أ الحكم المونارشي الرئاسي

استخدم الأسد المبادرة التي قام بها عام 1970 ورأس المال السياسي المتراكم في ما بعد لإعادة تشكيل دولة البعث من التجربة اللينينية الفاشلة الى نظام هجين خاضع لحزب البعث، الى نظام استبدادي «حكم ملكي رئاسي». كذلك فإن الأولوية الجديدة التي وضعت لتماسك الدولة أكثر من الثورة، وإدراك الهشاشة الحزبية للقيادة الجماعية، حدت بالنخبة الجديدة صراحة الى اختيار نظام رئاسي قوي. وقد جعل الأسد الرئاسة موقع قيادة غير متنازع عليه في دولة البعث، ومن خلالها، ركز السلطة الشخصية في يديه، حيث تسلم مقاليد مؤسسات السلطة الثلاث الكبرى؛ حيث تسلم قيادة الحزب كأمين عام له، ومن خلال قدرته بصفته رئيساً، تمتع بصلاحيات كاملة لتعيين وعزل الحكومات والقادة العسكريين. كما أن الهياكل الدستورية التي أحدثها كانت على غرار فرنسا الديغولية، التي كان فيها رئيس الوزراء مساعداً للرئيس ومكلفاً تنفيذ سياساته، والبرلمان مؤسسة تابعة من غير ريب.

وقد بُني صعود الأسد على أسس عدة؛ حيث كان النظام قد حقق مسبقاً استقلالاً ذاتياً عن الطبقات المهيمنة بكسر احتكارها على وسائل الانتاج وتعبئة العمال والفلاحين من خلال حزب البعث. وبعد عام 1970، حصل الأسد على استقلال ذاتي عن كل المجموعات في قاعدة سلطته من طريق خلق توازن بين بعضهم؛ حيث استخدم بداية قاعدته العسكرية ليحرر نفسه من قيود الحزب الأيديولوجية، ثم عزز «جماعة» من الأتباع العلويين الخاصين، غالباً من أقربائه، وتم تعيينهم لمهمات الأمن الحاسمة والقيادات العسكرية، الأمر الذي أعطاه استقلالاً أكبر عن الجيش الذي أصبح بعثياً (Kienle 1992P; Perthes 1995: 146-154)، وفضلاً عن ذلك أيضاً، وبسبب تلهفه لاسترضاء السنة المدينيين، وبخاصة الدمشقيين، فقد قام متعمداً بكسب عدد مهم منهم واختيارهم لمناصب عليا في الحزب، واختار كذلك العديد من التكنوقراطيين غير الحزبيين للحكومة. وقد مكّنه القيام بتحرير اقتصادي محدود من تشجيع البورجوازية الجديدة المعتمدة على الدولة، وتشكيل تحالف مع قسم من البورجوازية الخاصة الدمشقية، حيث مثلت البورجوازية دعامة رابعة من الدعم الذي خفف من اعتماده على الآخرين. وهكذا، حصل الأسد على الاستقلال الذاتي في الدولة من طريق الموازنة بين «مراكز القوة» في النظام (Dawisha 1978a)، وعلى استقلال المجتمع من خلال موازنة سلطة الدولة ومصالح القطاع الخاص (Statist and Private sector interests).

وبما أن الرئيس أصبح المصدر الرئيسي للمبادرات في النظام، فقد أصبحت شخصيته، قيمه، قوته وضعفه أمراً حاسماً لتوجه النظام واستقراره. ويمكن القول جدلاً، إن قيادة الأسد أعطت النظام مركباً معززاً من التماسك والمرونة المفتقر إليه حتى هذا اليوم. وقد كان تماسك سياسته متجذراً في تكييف سياسته وفقاً للحاجات الاجتماعية ضمن وجهة نظر بعثية بشكل أصيل للعالم، لأن أصوله ومهنته عكستا بصدق على المستوى الشخصي قصة بطولات البعث: من عائلة فلاحية، أصبح قائداً بعثياً في المدرسة الثانوية، ثم انضم الى القوات الجوية حيث ساعد وهو ضباط شاب في تسلم الحزب زمام السلطة. وبالتساوي مع ذلك هناك أمر مهم، أنه اختبر صدمة التَرَؤس عندما كان وزيراً للدفاع في الهزيمة المدمرة عام 1967، وبعد ذلك أصبح هاجسه استرداد أرض سوريا وكرامتها.

وقد أثبت الأسد من خلال تصميمه وذكائه وتكريس نفسه لمهمته صلابة وعناداً للحد الأقصى في سعيه وراء المبدأ القومي في الصراع مع إسرائيل. وقد بدا الميكافيلي الصلب مستعداً لاستخدام أي وسيلة في صراع القوة الاقليمي وللدفاع عن نظامه. وكان مستعداً أيضاً كبراغماتي واقعي لإخضاع الايديولوجيا لحقائق القوة، ومن ثم تعديل البعثية للتكيف مع مصالح البورجوازية في الوطن والمتبرعين العرب في الخارج. وفضلاً عن ذلك، وعلى عكس الراديكاليين البعثيين الذين تحدوا المصالح الضخمة بغض النظر عن النتائج، فقد وسمت سياسة الأسد بالحيطة، والتماسك الصبور، وإحداث تعديلات إضافية لتغيير الظروف (Maoz 1975, 1978; seale 1988).

وفضلاً عن ذلك، كان الأسد على ما يبدو المصدر الرئيسي للمبادرة والمسؤولية في النظام. وكشخص شديد الحب لعمله، كان مشهوراً بجلسات عمله الماراتونية، وكمثال على ذلك، فقد فاوض شخصياً وزير الخارجية الأميركي بيكر لمدة سبع ساعات متواصلة حول شروط مؤتمر مدريد للسلام. وفي سوريا، أبقى إصبعه على نبض النظام، يخابر أعضاء النخبة حتى في منتصف الليل لتقديم تقاريرهم (Seale 1988/ 340-44).

وأخيراً، أصبحت منزلة الأسد الشخصية مصدر القوة للنظام. ومن المؤكد، أن الأسد لم يطور قطّ كاريزما ناصر، بسبب الخلفية السرية الاعتيادية لمشاهد قائد غير مريح بالأسلوب الشعبي، ولكنه مع الوقت عزز مكانة شعبية فريدة بين نخب النظام، وكسب الاحترام على مضض حتى من العديد ممن يكرهون النظام، بسبب أمانته الشخصية، وبسبب الاستقرار النسبي في البلد، والفعالية الأكبر في الخارج التي وجهها حكمه. إن معظم السوريين، وبخاصة الجيل الذي لم يعرف حاكماً غيره، لم يروا أي بديل للرئيس.

وكان ثمن هذا الاستقرار المتين والفعالية توريث مركز الدولة. ومهما كانت الدعامات المؤسساتية الجماعية التي ربما وفرها أعضاء قيادة البعث مرة، إلا أن جعل السلطة شخصية في الرئاسة أدى الى إضعافها. وبما أنه كلما تلاشت الايديولوجيا توطدت السياسة، فقد تحمل الأسد الفساد بشكل متزايد، بينما كان يحيط نفسه بشخصيات مطواعة، حيث سمح لهؤلاء الرجال غير القادرين على الحصول على الثروة من خلال رواتبهم الوظيفية المتواضعة، بأن يغتنوا من طريق أخذ العمولات أو التهريب، مع إعطائهم حصة غير مشروعة. وفي أحسن الأحوال وضع صرف الأسد، من حين لآخر، للكثير من الفاسدين حدوداً لنطاق الفساد الذي يمكن أن يحتمل. وقد كانت هذه العملية أيضاً تعني أنه كان هناك القليل فقط، إن وُجد، من زعماء الاستقلال ذوي المكانة الرفيعة لقيادة وتقوية المؤسسات الأخرى في الدولة حول الرئاسة. ونظراً الى انتشار العبادة الرسمية للشخصية، فقد تم التضييق بثبات على مجالات الجدل حول سياسة الأسد، إن كان داخل دوائر الحكم أو خارجها (Seale 1988: 455-59; Sadowski 1985; Wadenn 1999).

ب ـ تركيب النخبة: حكم العلويين؟

يُشار الى نظام الحكم السوري غالباً من قبل نقاده بحكم الأقلية، أو أكثر تحديداً حكم العلوية. وفي الحقيقة، إن استراتيجية الأسد لتماسك السلطة، بالاعتماد على الأقارب والقبلية، عزز بالضرورة هيمنة العلويين، وفيما أدت العصبية الطائفية دائماً دوراً في تدعيم الأنظمة المختلفة فقبل العلوية كان الدروز، الحموية، الأكراد وصلت في ظل نظام الأسد الى انسجام لم يسبق له مثيل. وقد مثّل خضوع هيئات حزب البعث القيادية الجماعية لرئيس علوي مدعوم من أجهزة علوية تزايداً هاماً في قوة العلويين. وقد كان الضباط العلويون حول الأسد الذين أتوا، على نحو ملائم، ليعينوا «بارونات»، محوريين لأنهم، كأقرباء شخصيين أو موكلين للرئيس حصلوا على امتيازات للاقتراب منه من خلال مناصب في الحزب للسيطرة على عتلات القسر. ولذلك فقد كانوا في مناصب فذة ليتصرفوا كوسطاء أو سياسيين، وجرى تعيينهم بشكل استثنائي وبخاصة في أوقات الأزمات لصياغة النتائج.

وحتى أوائل الثمانينات، كان شقيق الرئيس، رفعت الأسد، الذي يقود سرايا الدفاع، البارون الأول في النظام. وترأس عدنان الأسد السرايا التي سيطرت على طرق مداخل العاصمة وحرست مواقع قياداتها. بينما سيطر عدنان مخلوف صهر الرئيس على الحرس الجمهوري. كذلك ترأس علي حيدر القوات الخاصة، التي تستخدم ضد الأعداء المحليين والأعداء الخارجيين أيضاً. وترأس ابراهيم العلي الجيش الشعبي الشبيه بالميليشيا. وربما كان محمد الخولي، رئيس الاستخبارات ومنسق اللجنة في الرئاسة أكثر مساعد موثوق للأسد، بينما أثبت علي دوبا، رئيس الاستخبارات العسكرية، أنه أكثر بارونات النظام صلابة. وقد تسلم أيضاً العلويون التابعون للأسد عدداً كبيراً غير متناسب من المواقع القيادية العملية العليا، وبخاصة الوحدات المدرعة الصانعة للانقلابات؛ اللواء شفيق فياض، قائد الفرقة الثالثة الحاسمة لمدة طويلة، كان موالياً صلباً للأسد، بينما اثنان من الألوية العلويين، ابراهيم صافي وعدنان بدر حسن، مددت مدة توليهما لمنصبهما كقائدي الفرقة الأولى والتاسعة. وفي أواخر التسعينات، استبدل اللواء السني حكمت الشهابي، باللواء العلوي علي أصلان، رئيساً لهيئة الأركان. (Batatu 1981; Seale 1988: 181, 428-437; Drysdale 1979; Perthes 1995: 150 151).

إذا كان البعثيون العلويون قد أدوا في البداية دور البروليتاريا البديلة في جعل البعث راديكالياً، فإنه بحلول السبعينات، تحول «البارونات/الأقطاب» البعثيون حول الأسد الى نخبة صاحبة امتيازات وذات صلات زبائنية مع المجتمع العلوي. من أجل منح القيادة جوهراً وطنياً تم تعزيز الهوية والتماسك لدى العلويين، وغالباً ما تبع العلويون في السلطة قواعد مجتمع القرابة في تفضيل أقربائهم في التوظيف، والأكثر أهمية في الدخول بسلك الضباط.

وقد أبرز استياء هؤلاء الذين تركوا خارجاً عادة السنة بشكل طبيعي وعيهم بهويتهم، الأمر الذي زاد بدوره من تماسك العلويين في الدفاع عن امتيازاتهم. إن استخدام العلويين للجيش والشرطة والقطاع العام للخروج من القرية وتحسين ثرواتهم جعل لهم مصلحة في المحافظة على الأدوار المهيمنة لمؤسسات الدولة على السوق الخاص، حيث تحتفظ البورجوازية السنية بالقوة. وفي مناخ كهذا، مالت الهويات الطبقية لأن تستبدل بالطائفية التي أصبحت أكثر بروزاً خلال مواجهة حركة الإخوان المسلمين (1976 82) لما تسميه «النظام العلوي». وخلال هذه الفترة، أظهر التوتر ما بين الطوائف صراعات أيديولوجية داخل نخبة النظام نفسها، حيث كان البعثيون السنة مستعدين لتسوية الخلافات مع الآراء المعارضة أكثر من المتشددين العلويين.

ولكن من الخطأ التفكير بأن النظام كان بشكل حصري نظاماً علوياً، أو أن الهيمنة العلوية ترجمت بشكل حصري الى سياسة من الامتيازات الطائفية والتنافسية، حيث بقيت النخبة العليا ائتلافاً طائفياً. وقد كان على الأسد بعد أن استولى على السلطة من خلال التحالفات مع الضباط السنة السابقين وسياسيي الحزب، مثل عبد الحليم خدام، حكمت الشهابي، ناجي جميل، عبدالله الأحمر ومصطفى طلاس، أن يتشارك السلطة معهم على الأقل مبدئياً. وقد تحمل هذا الألم حتى لا يعرّف كقائد للكتلة العلوية في النظام، وقام عمداً باختيار السنّة ذوي الاعتبار ليكونوا في الحزب وأجهزة الدولة، ووقف على رأسهم ووازن بين النخب من الخلفيات الطائفية المختلفة. والى حد كبير، كانت القوة في النخب العليا مشتركة بين مجموعتين مهيمنتين: الضباط العلويين في مركز الرئيس الداخلي، والسنة الدمشقيين باتصالاتهم الهامة مع المجتمع التجاري السني.

ثانياً، إن تركيب الصفوف الثانية من النخبة بقيت طائفية، وهكذا، تقاسم السلطة في قيادة الحزب العسكرية الفعالية 34,4 بالمئة من السنة مع 37,7 بالمئة من العلويين، بينما كان تمثيل المجتمعات الدينية في مجلس الوزراء (مجلس وزراء الحكومة)، رغم كونه تمثيلاً غير كافٍ للأغلبية السنية، أكثر تناسباً مع حصصهم في عدد السكان: وبالتالي فقد تسلم السنة في الأعوام 1963 1978 نسبة 58,2 بالمئة من المناصب، والعلويون 20 بالمئة، الدروز 6,1 بالمئة، الاسماعيليون 5,6 بالمئة، والمسيحيون 7,4 بالمئة (Van Dam 1981: 126 129). وحتى السُّنة القرويون لم يستبعدوا: في الحقيقة ظهر في أواخر الثمانينات العديد من البعثيين السُّنة من مدينة درعا على قمة الحزب وأهرامات الدولة.

ثالثاً، كان للسياسيين العلويين هويات متعددة بالإضافة الى الطائفة، بما في ذلك الايديولوجيا والمهنة. وقد صوَّر بعض السُّنة، العلويين كشبكة متضامنة سرية يأخذون أوامرهم من شيوخهم، ولكن في الواقع، كان النزاع الداخلي العلوي، مثل تنافس جديد الأسد، مرضاً مستوطناً، وقد تمايز العلويون اجتماعياً بشكل كبير (Drysdale 1979; Maoz 1976: 277-278; Van Dusen 1975: 141-151) وفي القمة كان هناك حفنة من بارونات النظام ذوي النفوذ والأغنياء، حيث يعيش بعضم بشكل طفيلي على حساب الدولة أو كسماسرة بينها وبين القطاع الخاص؛ وقد ترأسوا شبكات زبائنية من الشباب العلويين المهمشين الذين لا أملاك لهم حرفياً الكتلة البروليتارية (lumpenproletariat) والذين غادروا قراهم بأعداد كبيرة لينضموا بشكل جماعي الى ميليشيات أمن النظام المتعددة. وآخرون من النخبة السياسة العلوية الذين احترموا لجدارتهم وخدمتهم للدولة؛ ومثال على ذلك، الضابط المحترم اللواء علي أصلان نائب رئيس هيئة الأركان لسنوات، بينما كان العديد من التكنوقراطيين العلويين يحركون القوى خلف صناعات القطاع العام. في الحقيقة، بين البارونات/ الأقطاب والكتلة البروليتارية العلوية، أنتج العلويون طبقة بفكر متحرر من المهنيين: أطباء، اقتصاديون، مثقفون، حيث كانوا بعضاً ممن ازدروا العيش على حساب الدولة (Batatu 1981; Faksh 1984;137,143-147).

ومن المؤكد أنه في أوقات الصراعات الطائفية الحادة، قد تتقارب مصالح النخبة العلوية «الحديثة» و«التقليدية» للدفاع عن الجماعة ككل، حيث كان يعتقد أن الرئيس والشيوخ يلتقون في اجتماعات سرية طائفية في القرداحة، قرية الأسد، خلال التمرد الإسلامي (Kramer 1987:251). على أي حال، عادة ما تتقاطع شبكات الزبائن مع الخطوط الطائفية، حيث الوسطاء العلويون المنافسين كل لديه حلفاء من السّنة أو أتباع من الزبائن السنة. وعلاوة على ذلك، لم تكن السياسة العامة والإنفاق في حالة انحياز طائفي أو مناطقي لمصلحة علويي اللاذقية: (Perthes 1995: 184-85). ولم تكن العشائر العلوية وحدات فعالة في العمل السياسي. ورغم أن النظام بدا كأنه استعمر من قبل المافيا العلوية حول الأسد، إلا أن تعقيد النظام عمل في الواقع ضد حكم الطائفة الواحدة، وبالتالي حتى الأكثر تمرساً في الطائفية، رفعت الأسد، أقام تحالفات مع البورجوازية السنية، ومهنيي الطبقة الوسطى، وأجهزة الحزب، وأدرك أنه لا يمكن تضامناً علوياً بسيطاً أن يحكم سوريا.

ومن الممكن فقط عندما يندمج أعضاء نخبة السلطة، العلويون وغير العلويين، مع الفصائل المختلفة من البورجوازية السنية الجديدة والقديمة في طبقة مهيمنة لها مصلحة في النظام، أن يحيد الانشقاق الطائفي من خلال تضامن طبقي في القمة، إلا أن هذه العملية بطيئة ومقنعة. وتبقى الزيجات المتبادلة بين العلويين والارستقراطية القديمة أو البورجوازية التجارية هي الاستثناء. وكان أحد العوائق أمام توسيع الزيجات المتبادلة هو أن العديد من النخبة العلوية هم من الجيل الأول في السلطة ولديهم زوجات في القرية؛ ولكن بحلول التسعينات، كان من الممكن لأولادهم الذين دخلوا في أعمال مع شركاء سنة وأصبحوا من أصحاب الامتيازات، ويفتقرون الى خوف آبائهم من البورجوازية أن يسعوا ويُقبلوا ضمن البورجوازية على نطاق أوسع من خلال الزواج.

ويبقى الاستياء من الهيمنة العلوية المصدر الأساسي لعجز شرعية النظام، ليس فقط لأن الكثير من النخبة هم علويون، بل لأن الكثير منهم يتباهى بامتيازاته وبحصانته من القانون. حتى إن التضامن العلوي شكّل درعاً لا غنى عنها للنظام: حيث أن فوائدهم من النظام غير المتكافئة مع الآخرين، وخوفهم من الانتقام الذي قد يتعرضون له عند سقوطه أعطاهم مصلحة قوية لإبقائه، وكما أظهر القمع في حماه عام 1982، فقد كان لديهم القوة القسرية والإرادة ليدافعوا عن النظام من دون تحفظ. وهذا التعصب يقوض ويقوم مقام تشكيل مؤسسات شرعية في مركز الدولة.

[ علاقات المجتمع ـ الدولة

في ظل نظام الأسد

1 «طبقة جديدة»

إن الصراع مع إسرائيل، الذي هو على رأس أولويات الأسد أملى على الدوام توسيع بناء القوات العسكرية مع الاستمرار بالنمو الاقتصادي الحاسم لتماسك الدولة من الداخل. وقد اعتمدت هذه الاستراتيجية على مصادر مستمدة من الأنظمة الدولية والاقليمية، أي الأسلحة والتقنيات الرخيصة من الاتحاد السوفياتي/ الكتلة الشرقية، والمساعدات المالية الهائلة من دول النفط العربية. إلا أن هذا يتطلب أيضاً بعض التحرير الاقتصادي في البلد لتعبئة رأس المال المحلي والمغترب والعربي. وبهذا اتبع الأسد، مخضعاً الايديولوجيا الاشتراكية للبراغماتية الاقتصادية، استراتيجية مزدوجة من الاستثمار العام والتحرير الاقتصادي في آن واحد، تهدف الى الحفاظ على قدرة النظام في السيطرة على الاقتصاد وإرضاء ناخبيه، بينما يستمر في استرضاء وتشجيع استثمار البورجوازية السورية.

وقد استمرت هيمنة الدولة على الاقتصاد اسمياً، نظراً الى المساعدات الخارجية الكثيرة التي كانت تأتي من طريق الدولة والتي كانت تستخدم جزءاً منها لتمويل دفع عجلة تصنيع القطاع العام في السبعينات. كذلك وسعت شركات الدولة أيضاً مجالاتها في بعض القطاعات المشتركة الأخرى، مثل التجارة الخارجية والبناء. وفي الوقت نفسه، أدى تحرير التجارة الى انفتاح سوريا على السلع المستوردة الغربية، ودعم إحياء القطاع الخاص، وانتشار البورجوازية الكومبرادورية. وقد أخذت الكثير من الأعمال التجارية الخاصة الجديدة شكل المضاربة في العقارات وتبادل العملات، واحتكار تراخيص استيراد السلع النادرة مثل السيارات، أو عمليات الاستيراد والتصدير التي وسعت الاستهلاك أكثر من الانتاج. لكن هجرة العمال الى الخليج خففت البطالة وأنتجت حوالات، في الوقت الذي كانت فيه رؤوس أموال الاغتراب تتدفق الى سوريا لتمويل مشاريع تجارية جديدة، حيث وصل هذا كله ليكون صمامات أمان اقتصادية عديدة.

وهكذا، وبما أن النخبة السياسية والعسكرية استخدمت سلطتها لإثراء نفسها، بينما تسعى البورجوازية وراء فرص لترجمة ثروتها الى تأثير سياسي، فقد تشكلت التحالفات وبدأ دمج معين بين الدولة والبورجوازية الخاصة. وقد أعطى تعيين سليل عائلة دمشقية بورجوازية في مناصب عليا بعضاً ممن يملكون الثروة مدخلاً الى السلطة. وبالوقت نفسه، فإن بورجوازية الدولة عناصر من النخبة السياسية ومن الدرجة الأقل المديرين والبيروقراطيين على كل المستويات استخدمت الثروة المستخلصة من القطاع العام للدخول في قطاع الأعمال «جانباً» مطعم، أعمال استيراد، مزرعة دواجن، شركة بناء وبالتالي ضمنت موطئ قدم في القطاع الخاص. وبالإضافة الى ذلك، كانت البورجوازية الخاصة، لكن المعتمدة على الدولة المتعهدين (المقاولين) ووكلاء الشركات الأجنبية البعض من ذوي الأصول البورجوازية الصغيرة، قد خُلقت خارج صلات الدولة بالمعنى الحرفي، كذلك، إن أقساماً من البورجوازية الناشئة أيضاً قد وجدت فرصاً للحفاظ أو إعادة تقديم نفسها من طريق صلات مشابهة. وقد ولّدت التحالفات المتعددة التجارية، السياسية، وأحياناً الزواج التي نمت بين نخب الدولة ورجال الأعمال، بورجوازية جديدة التشكيل؛ رسمية الى حد ما، وخدمية وتجارية جزئياً، ولها موطئ قدم في كلا القطاعين الخاص والعام. وربما استحقت هذه البورجوازية تسمية النقاد لها «بالطفيلية»، لأنها استنزفت القطاع العام للحدود القصوى بحثاً عن فعاليات غير منتجة الى حد ما (Seale 1988: 317-320, 455-60).

إن جوهر هذه الطبقة الجديدة كان نمو الارتباط العلوي الدمشقي، الذي هو نوع من «المركب العسكري التجاري» كما قال صادق جلال العظم (Seale 1988: 456). وكان العلويون، وبخاصة ضباط الجيش والاستخبارات، والسياسيون الدمشقيون والبيروقراطيون أصحاب الصلات مع البورجوازية التجارية، في الوضع الأفضل للاستفادة من الفرص الجديدة ضمن النخبة السياسية. وقد حوَّل إثراء النخبة العلوية واحدة من أقوى قوى التغيير الراديكالي في النظام سابقاً الى مجموعة حاصلة على امتيازات تحتاج الى الدفاع عنها.

ويبقى السؤال المشوق؛ هل كان تشكيل هذه «الطبقة» دولياً؟ ويخمن سيل (1988: 457) بأن الأسد سعى عمداً الى إعطاء نظامه طبقة داعمة مطلوبة للاستقرار، ويمكن القول بأن الوصول الى إسكات العداء الحاد السابق بين الدولة والبورجوازية الخاصة أعطى النظام قاعدة قوية وأكثر أمناً.

 

حمل الكتاب من الرابط التالي

 

سورية ثورة من فوق/ رايموند هينبوش

 

 

صفحات سورية ليست مسؤولة عن هذا الملف، وليست الجهة التي قامت برفعه، اننا فقط نوفر معلومات لمتصفحي موقعنا حول أفضل الكتب الموجودة على الأنترنت

كتب عربية، روايات عربية، تنزيل كتب، تحميل كتب، تحميل كتب عربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى